رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يوميات قلب مخذول (1 - 3).. هل واجه فريد الاطرش حربًا ثلاثية من عبدالوهاب وثومة والعندليب؟

فريد الاطرش
فريد الاطرش

بعد أن مر شهر يوليو من عام ٥٢ بسلام، هدأت أجواء البلاد واستقرت أحوال العباد بخروج رمز النظام السابق للضفة الثانية من البحار، وبدأ الشعب ينظر بعين فاحصة معجبة لهؤلاء الشباب الجدد الذين يمسكون بزمام أمور الوطن المهتز بالثورة الوليدة، كانت أضواء السينمات تضىء بالفيلم الثالث هذا العام لفريد الأطرش وهو فيلم لحن الخلود.. حينها كان فريد يجلس على قمة سينمائية اخترعها لنفسه ولُقب على أساسها بملك الأفلام الاستعراضية وهى الجملة التى كانت تتصدر أفيشات أفلامه فى تلك الفترة إمعانًا فى الدعاية.

فى نفس اللحظة وطأت أرض المحروسة قدما شاب يتيم نحيل الجسد عظيم الموهبة لم يكمل عامه الثالث والعشرين أتى حديثًا من قرية تقبع فى ركن منزوٍ من محافظة الشرقية اسمها «الحلوات».. ومازال يتلمس خُطاه فى تلك المدينة العامرة بالأضواء على عكس بلدته الريفية، محاولًا أن يجد موطأ قدم عبر الوسيلة الأهم حينها وهى الإذاعة المصرية لتتلقفه يد حافظ عبدالوهاب أحد كبار الإذاعة الذى منحه بجوار رعايته اسمه، ليكافئه التاريخ على نبله بتخليد هذا الاسم مقترنًا بواحد من أهم أصوات مصر على مر التاريخ وهو عبدالحليم حافظ.

حينها كان الثنائى عبدالوهاب وأم كلثوم يواجهان حالة علاقة ضبابية مع العهد الجديد وتحفظًا فرضته علاقتهما الوطيدة بالبلاط الملكى المنهار، لكن سرعان ما انقشعت تلك الغيمة سريعًا ووقف الاثنان فى ظهر الثورة ورجالها ليظلا محتفظين بقمتهما التى لم يناطحهما فيها أحد.

وكعادة الأقدار عندما تجمع المفارقات كما يجمع الهواة الطوابع النادرة، حملت السنوات التالية مياهًا غامرة كست مجرى العلاقة بين هذا الرباعى، فريد من ناحية وعبدالوهاب وعبدالحليم وأم كلثوم من ناحية أخرى، وخُلقت حالة حراك دائم جعل من تلك العلاقات الإنسانية المتشابكة بينهم منجمًا لا ينضب من الحكايات الصحفية عن هؤلاء الأكابر الذين ملأوا الدنيا فنًا، وأثقلوا الوجدان بعطايا نغمات حلوة، لكن للأسف وسط كل ذلك الزخم الإنسانى بينهم لم ينجح الفن فى اقتناص عمل مشترك بين أى من الثلاثة وبين فريد الذى ملأ السنوات التالية جهرًا برغبته الملحة فى هذا التعاون، لكن السنوات مرت وذهب فريد إلى البر الآخر فى نهاية سنة ٧٤ دون أن يجد إجابة شافية عن سبب فشله فى ربط اسمه الكبير فنيًا بأى من أصدقائه الثلاثة الكبار.

وتتابع رحيل أبطال القصة الأربعة لتنضم ثومة لفريد بعد شهرين فقط فى فبراير ٧٥ ثم عبدالحليم الذى لبث ثلاث سنوات أخرى يصارع مرضه العضال حتى رفع راية الاستسلام فى مارس ٧٧، لتُغلق حقبة السبعينيات على خسارة فادحة للفن المصرى والعربى برحيل فريد وحليم وثومة تاركين عبدالوهاب وحيدًا يطوى ثمانينيات القرن العشرين التى وافقت سنوات ثمانينياته هو دون صخب، حتى لبى النداء بداية التسعينيات ليطوى آخر صفحة فى تلك الحكاية.. دون أن يجيب عن سؤال قاسٍ ظل يتردد فى نفوس عشاق فريد: هل واجه الأمير الحزين حربًا غير معلنة فى مصر من عبدالوهاب وعبدالحليم وأم كلثوم؟

بقليل من التقليب بين سطور الصحافة الورقية قد نصل إلى إجابة قريبة أو حتى تصور محتمل لا ينفى عظمة الأربعة.. هيا بنا.

عندما قال عبدالوهاب: «إحنا مش فى ماتش مصارعة يا فريد»

«لا يا سيد عبدالوهاب» عنوان غاضب زاعق صدّرته مجلة الكواكب فى عددها الصادر ١٢ يونيو ١٩٥٦ وهو على لسان فريد الأطرش، ويحمل العنوان نبرة غضب مكتوم من الرجل عبر عنها بمقال طويل أفردت له الكواكب نصف صفحة كاملة دون أن يتدخل محررها فى الصياغة غير مقدمة صغيرة جدًا يشرح فيها أن هذا المقال هو إعمال لحق الرد من فريد على موضوع نشر فى العدد السابق عليه بتاريخ ٥ يونيو ١٩٥٦ وكان بعنوان «موسيقيون على مشرحة عبدالوهاب».

لكى نعرف سبب تلك الـ«لا» القاطعة الغاضبة التى رفعها الأطرش فى وجه عبدالوهاب ينبغى أن نقرأ ما قاله عنه موسيقار الأجيال وأغضبه فى تحقيق الكواكب الذى استدرج فيه الصحفى «لطفى رضوان» عبدالوهاب لينتزع منه آراء صادمة فى أهم الموسيقيين حينها وهم زكريا أحمد وأحمد صدقى ورياض السنباطى ومحمد الموجى وكمال الطويل، وفريد الأطرش بالطبع حيث وصفه بـ«الملحن الباكى» الذى يدعو الحضور إلى الرقص على أنغامه الحزينة، وهذا شىء غريب فى دنيا الموسيقى، على حد وصفه، ثم زاد عبدالوهاب الطين بلة وضغط على أشد الأوتار حساسية فى نفس فريد، حيث قال عنه: «وهو يمتاز بأنه لم يستطع إلى اليوم على الرغم من أنه يعيش فى مصر أن يتحرر فى ألحانه وصوته من الشامية التى تجرى فى دمه»، وكما هو واضح أن عبدالوهاب طرح الأمر وكأنه ميزة فى حق فريد، لكن الأخير بالتأكيد من واقع معرفته الطويلة له كان يدرك أن مجرد الإيحاء بأصله الشامى فيه انتقاص من مصريته التى كان يراها مكتملة تمامًا بغض النظر عن حمله الجنسية من عدمه، لذلك كان رد فريد فى العدد التالى من الكواكب حادًا وزاعقًا فى وجه عبدالوهاب الذى لم يقع مرة واحدة فى علاقته بفريد، كما سنرى، فى منزلق عصبية زاعقة وشد وجذب فيه ما يؤخذ عليه، كان الأمر يقتصر على جملة أو تصريح يقوله ضمن حوار صحفى أو إذاعى أو تليفزيونى مثلًا، يحمل غمزة أو جملة تمس نقطة ضعيفة عند فريد، صاحب القلب الطيب الذى يتغلب على التعقل دائمًا.. فتجده يغالى فى الهجوم على صديقه عبدالوهاب فيظهر حينها بمظهر المسىء، وهو تحليل تفرضه المتابعة الجيدة للحروب الكلامية التى دارت بين الاثنين على مدار السنوات التالية كما سنرى.. وبالتبعية كانت تلك المناوشات الكلامية بين الاثنين عامل جذب كبيرًا للصحافة الفنية حينها فى مصر لأن فريد وعبدالوهاب كانا يمثلان القطبين لفكرة الموسيقار المطرب الذى يمتلك جماهيرية فى الناحيتين التلحين والغناء.

تعالوا نقرأ مقتطفات كاشفة من رد فريد على عبدالوهاب. 

«قرأت، وأنا فى فراش المرض ما كتبه الزميل الأستاذ محمد عبدالوهاب عنى.. وقد وقفت عند عبارة «وهو يمتاز بأنه لم يستطع إلى اليوم، على الرغم من أنه يعيش فى مصر، أن يتحرر فى ألحانه وصوته من الشامية التى تجرى فى دمه».

«وقفت عند هذه العبارة طويلًا ولم أجد لها تفسيرًا أقتنع به، فإن كلمة يمتاز لا بد أن يتبعها فضل وامتياز، ولكن ما وراء يمتاز فى العبارة المذكورة طعن.. وحيرنى الأخذ بأى التفسيرين ولهذا فضلت أن أعود للأستاذ عبدالوهاب وأسأله: هل تريد أن تقول إننى لم أتخل عن لونى الشامى وهذا امتياز جدير بالثناء والإطراء؟.. فإذا أجبتنى بنعم فإننى أسألك ولماذا إذن قلت إن هذا حدث بالرغم من أنه يعيش فى مصر! وإذا أجبت بالنفى، إذا اعتبرت الاستمساك بالشامية عيبًا فإن هذا يدفعنى إلى السؤال الثانى الذى أقول فيه: هل تعتبر شاميتى وجهًا من أوجه النقد؟ إذا أجبت بالإيجاب فأنا أقول لك إننى أفخر بشاميتى ولا أتنكر لها، ولكن مصر صارت وطنى وأرضى أفديها بكل قطرة من دمى وروحى، وفيها سلخت من عمرى ثلاثين عامًا فى كفاح لم ينقطع، وقد تشرّبت روحها ووضعت ألحانًا من صميمها».

وفى عدد الكواكب ١٠ أغسطس ١٩٥٨ فى حوار مطول لعبدالوهاب بعنوان «محمد عبدالوهاب يتكلم فى السياسة والحب وشيل الحديد».. حمل الحوار الطويل سؤالًا عن فريد الأطرش الذى كان قبلها بأسابيع قد شاع عنه فى أكثر من حوار أنه قال فيما معناه إنه يدخل فى تحدٍ مع عبدالوهاب ليلحن كل واحد منهما لحنًا للآخر والجمهور هو الحكم بعد ذلك يرى أى الأغنيتين أفضل، لكن على ما يبدو أن تلك الصيغة لم ترُق لعبدالوهاب الذى يرى فى نفسه أكبر من الدخول فى أى تحدٍ وبنى لنفسه عبر سنوات صورة كبير المجتمع الموسيقى وملجأ الجميع عند الخلاف وهو الأمر الذى أخذ شكلًا رسميًا يوافق تصور عبدالوهاب بعد أن حصل على رئاسة جمعية المؤلفين والملحنين.

المهم أن صحفى الكواكب سأله سؤالًا مباشرًا عن تصريحات فريد قائلًا «فى حديث لفريد الأطرش احتكم إلى الجمهور فى أن تتبادلا الألحان والغناء.. فما رأيك؟ أما الإجابة كما جاءت بنص ما كتبه جميل الباجورى حينها: سرح بعيدًا بأفكاره، كأنما يفكر فى إجابة ترضيه ولا تغضب أحدًا، ثم التفت إلىّ وقال: لقد قرأت ما قاله الأستاذ فريد وأنا فى الواقع لا أصدق أنه قال مثل هذا الكلام خاصة أنه كلام لا يليق بحديث فى مجال موسيقى فنى، فإن التحدى والمباراة العادلة الشريفة لا تذكر إلا فى ماتشات الكورة وحلقات المصارعة والبوكس وشيل الحديد».

لقاء القمة.. الوعود المهدرة فى بيت عبدالوهاب

صدرت مجلة الكواكب فى عدد ٢٩ نوفمبر ١٩٦٠ بهذا العنوان الكبير «لقاء القمة» ليكون عنوان موضوع ضخم على ٦ صفحات كانت الصورة المفتاحية له بعرض صفحتين للثلاثى فريد وحليم وعبدالوهاب متجاورين فى صالون بيت الأخير، ويمسك فريد عوده بينما عبدالوهاب وحليم يضعان ساقًا على ساق، وتحت العنوان الكبير مقدمة شارحة لطبيعة هذا اللقاء الاستثنائى كتبها صحفى الكواكب الذى كان شاهدًا عليه وهو جميل الباجورى.

قصة اللقاء يحكيها الباجورى بأمانة وكأنه ينقل أحداث مباراة ساخنة فى كرة القدم مع عدسة مصورة الكواكب التى لم يذكر اسمها فى التحقيق للأسف، ترصد كل ما جرى فى ذلك اللقاء الحميم والصور المرفقة تشهد على وصلات من المزاح بين فريد وعبدالحليم أصبحت فيما بعد تستخدم للتدليل على عمق العلاقة بين الاثنين بعد أن احتدمت الخلافات فى السنوات التالية كما سنرى عند الحديث عن العندليب.

لكن ما يمكن أن نرصده بدقه فى هذا اللقاء الطويل كمية الوعود والمشاريع الفنية التى آلت جميعها بلا استثناء للعدم، وهى مشاريع تتعلق بنفس المسار الذى بذل فيه فريد الغالى والنفيس ليتحقق بتبادل التلحين مع عبدالوهاب والتلحين لعبدالحليم ونجاة التى حضرت اللقاء فى منتصفه، والعجيب أن القوة المحركة الأساسية لتلك المشاريع حينها كان عبدالوهاب نفسه الذى زايد على رغبات فريد بعرض إنتاج فيلم مشترك يكون بطولة فريد وعبدالحليم وشرع بالفعل فى إحضار عقود ليمضى الثلاثة عليها بصفته منتجًا والباقين أبطال الفيلم، وما يدعو للأسى على حال فريد أيضًا أنه وضع شرطًا وحيدًا وسأترك السرد لصحفى الكواكب: 

«فريد: أنا على استعداد يا عبدالوهاب لتنفيذ هذه الفكرة على شرط واحد.. إنك تغنى لى أغنية بعد عرض الفيلم. 

عبدالوهاب: أنا موافق 

فريد: اكتب ورقة

عبدالوهاب: أكتب ورقة واتنين وأختم وأبصم بس امضِ أنت العقد».

وكالعادة لم يحدث شىء واستمرت العلاقة الوهابية الفريدية على تلك الجمرة المشتعلة طوال فترة الستينيات وزادتها اشتعالًا بعد ذلك أغنية «إنت عمرى» التى ظن فريد أنها قربت منه الحلم الكلثومى بعد أن حققه رفيقه عبدالوهاب، لكن لم يحدث كما سنرى عندما نتحدث عن أم كلثوم.. إلى أن وصلنا لسنوات الهدوء والوداع والتى أظهرت القيمة الحقيقة للاثنين فى نفوس بعضهما بعيدًا عن نقار الديوك خلال سنوات الصخب.

دروس حب مجانية من عبدالوهاب فى سنوات فريد الأخيرة.. ثم يأتى الموت ليعالج كل شىء

بعد أن خفّت الأمواج بين حليم وفريد وظهور الاثنين فى أكثر من موضع وكل منهما فى حالة هيام بالآخر.. وعلى ما يبدو أن تدهور صحة الاثنين وبدا أن العمر لم يتبقَ فيه ما يدعو لتلك المعارك بين الأحبة بدأت تنمو فى السطح الصحفى كثير من الصور والموضوعات العائلية التى تجمع عبدالوهاب وحبيبته وزوجته نهلة القدسى اللذين كانا يمثلان مثالًا يحتذى به على قصة الحب الناجحة فى الوسط الفنى التى لم يقتلها الزواج.

وصحى هنا وعد عبدالوهاب القديم لفريد عندما قال له: «هجوزك يا فريد»، وقال له الأخير: «إيدى على كتفك».. وبدأت المجلات الفنية فى القاهرة وبيروت تتبع صور الرباعى عبدالوهاب وزوجته وفريد وخطيبته سلوى القدسى، مثلما فعلت مجلة الموعد فى عدد ٢٦ يوليو ١٩٧٣ عندما أفردت صفحتين لصورهم مع عنوان دال على ما آلت إليه العلاقة بين فريد وعبدالوهاب من هدوء تام: 

«فريد الأطرش يتعلم الحب من عبدالوهاب».

ثم يأتى الموت الذى يتضاءل أمامه كل شىء وتنزوى وراء جدران هيبته كل الخلافات وتذوب أمام صولجانه أى غصّة فى النفوس، ويطفو فقط على السطح ما كان خافيًا عن ذلك الضيف الجديد على التراب، وهكذا كان موت فريد الأطرش على الرغم من أنه كان متوقعًا بطبيعة الحال نظرًا لتأخر صحته فى سنواته الأخيرة، إلا أن الصديق عبدالوهاب قد هزته الصدمة فى الأعماق، وجلس فترة ساكنًا لا يتكلم كما رصده مندوب مجلة «الشبكة» فى القاهرة، وقد غلف الحزن العميق كل ملامحه، وكأنه كان فى تلك اللحظات يشاهد شريطًا سينمائيًا لتلك العلاقة الدسمة الممتلئة عن آخرها بكل المشاعر الإنسانية بينه وبين فريد من شد وجذب لم ينقطع منذ اللحظة الأولى التى رأى فيها موسيقار الأجيال هذا الشاب المهذب صاحب اللهجة الشامية فى منزله بالعباسية عام ١٩٣٥ لدى زيارته هو وأخته أسمهان فى أولى خطواتهما فى قاهرة الأضواء.. هاربين من جحيم الانزواء فى جبل الدروز.

لكن بعد فترة من الشرود استرد عبدالوهاب شخصيته الرزينة وانتبه لما يجب القيام به مستغلًا سطوته فنيًا وسياسيًا فى ذلك الوقت، وتحدث مع كل المسئولين لتسهيل جنازة فريد الذى أصر أن تكون رقدته الأخيرة بجوار أخته أسمهان فى مقبرتهما بالبساتين.