رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العباقرة يرحلون مبكرًا

لثلاثة أيام متتالية استعصت علىَّ فكرة الرحيل.. أننى لن أراه ثانية.. كنا على موعد.. بيننا اتفاق أن يرسل لى بعض الصور أرسلها له صديق قديم.. حدثنى عن صورة جمعته مع عدد من النجوم الكبار الآن وقت زمالتهم فى كلية التربية الموسيقية.. كانوا جميعًا يغنون خلفه أغنيته الأولى مع عمر دياب.. كان يحدثنى عن أغنيته الأخيرة مع منير وتامر حسنى.. الدويتو الذى لم يصدر بعد.. وبعض أغنيات جديدة ضمن ألبومه المؤجل من سنوات.. عن تسجيلات نادرة لألحان لم تتم.. أو صدرت بطريقة مختلفة.. عن مجلات أجنبية كُتبت عنه مؤخرًا ولم نرها فى القاهرة.. كل ذلك قبيل فجر يوم ١٤نوفمبر.. بعدها بيومين وفى الثامنة صباحًا.. وجدته يترك لى «فويس» على الهاتف.. فطرت إليه أرد مازحًا إيه اللى مصحيك؟.. ما أنت لسه واخد كام جايزة وطبعًا دول بفلوس كتير.. قول كام وأنا مش هفتن للضرائب.. ضحكنا وتركته على وعد بمكالمة أخرى فى يوم تالٍ.. لكنها لم تحدث.. وجدتنى أمام منزله أدور حول المنزل ولا أعرف أين هو.. رغم أننى زرته فيه أكثر من مرة.. اتصلت بالشاعر الكبير فوزى إبراهيم، فأرسل لى موقع المنزل.. وقد كنت بجواره بالفعل.. ارتميت فى حضن محمود صلاح وأحمد شحتوت وأجهشت ببكاء غريب.. لم تتعود عيناى البكاء.. ماذا دهانى؟.. كنت أعرف أنه حزين.. يشعر بالقهر.. هو ناجح جدًا.. العالم كله يعرف أنه أهم ملحنى مصر فى الألفية الجديدة.. كل ألحانه ناجحة حتى البسيط منها.. هو يعمل ولا يعانى قلة الشغل.. هو يشعر بأن الناس لا تراه.. لا ترى نجاحه.. ثمة غصة فى حلقه تؤلمه.. دخل فى اكتئاب لا يناسب سمته ولا طبيعته.. هو مبتسم دومًا.. لم يضبطه أحدنا حزينًا منذ عرفناه نهاية تسعينيات القرن الماضى، فماذا جرى؟.. كيف تسلل التعب إلى ذلك القلب الطيب؟ 

منذ أشهر قليلة فاجأته آلام فى الصدر.. ودخل على إثر ذلك إلى غرفة العمليات لإجراء جراحة وتركيب دعامة.. هاتفته بعدها، فأنكر وادعى.. هو لا يشكو، لكنه مثل كل الفلاحين الطيبين.. أهله وأهلى يرفضون المتاجرة بآلامهم. لم يكن يريد سوى علامة على أننا نحبه.. لم يطلب عملًا أو مالًا أو مجدًا.. كان يطلب المحبة.. وقتها تذكرت أغنيته فى فيلم حين ميسرة «بحلم يكونلى ف الغنا صاحب.. بحلم يكونلى فى الوجود عنوان».. ليته شاهد بعينه القلوب الدامعة فى جنازته.. ليته شاهد العيون الموجوعة فى قاعة مسجد الشرطة.. استعجلت يا فتى. 

حين شاهدت ابنه الصغير فى العزاء يمضى هنا وهناك لا يدرى ماذا يحدث حوله.. خرجت على الفور.. كادت عيناى تفضحاننى.. لثلاثة أيام لم أستطع كبح جماح دموعى.. فماذا أفعل الآن لو أن عين الصغير جاءت فى عينى؟.. أنا أحد القتلة مثل كل هؤلاء الذين يبكونك الآن يا رحيم.. بخلنا عليك فى حياتك بما كنت تبغى.. مجرد كلمة تجبر الخاطر فيما لم تبخل أنت بآخر نفس لتغنى لنا. لا أعرف لماذا طاردنى بليغ حمدى فى الأيام الثلاثة التى تلت وفاة محمد رحيم وحيدًا فى بيته.. نفس الإحساس باليتم.. نفس النظرة لأولئك المزيفين.. أكثر الذين بكوا فى جنازة بليغ نهشوه حيًا وميتًا، وهذا ما يحدث الآن بعد أن رحل خليفته. مات سيد درويش فى ظروف غامضة.. ومات بليغ حمدى عقب مؤامرة دنيئة من شلة كاذبة وفاجرة.. ورحل رحيم مبكرًا قبل أن يتآمروا عليه.. لم ينتظر حتى تكتمل مؤامرتهم. كان لى صديق شاعر جميل اسمه خالد عبدالمنعم.. رحل فى منتصف العشرينيات.. وظفه يوسف إدريس، الذى أدرك موهبته الفذة، لكن الذين راح يعمل معهم أجبروه على الرحيل.. استنكروا أن يؤمن به إدريس.. استكتروا عليه الوظيفة.. فتركها لهم وغادر الحياة بحالها. 

لا أعرف لماذا أذكر أحبتى اليوم؟.. لا أعرف لماذا أشعر بذنب عظيم أننى لم أقل لكل من أحببتهم إننى أحبهم فعلًا؟ ليست وفاة طبيعية نعم.. لكن لا تبحثوا عن قاتليه.. نحن جميعًا شركاء فى مقتله.. لأننا لم نقل له فى الوقت المناسب إننا نحبه جدًا.. وإننا نتنفس موسيقاه دون أن ندرى.. وكأنها الماء الذى لا حياة لنا إلا به.. لكننا نعتبره أرخص من علب الورنيش الذى ندهن به أحذيتنا.. هو الماء يا سادة وقد تبخر فى لحظة مباغتة. 

هل أبلغكم سرًا.. نحن لا نستحق محمد رحيم.. أى رحيم.. فقد استوحشنا حتى على أرواحنا.. فصارت قطعة من العفن.. هل ندمتم بما يكفى؟.. هل انتبهتم لما فعلتم؟.. أحذركم إذن.. فى بيوتنا وعلى نواصى شوارعنا مليون رحيم.. فهل تفعلونها مجددًا.. أعتقد أنكم ستفعلونها.