«هاسبارا».. ضربنى وبكى، سبقنى واشتكى!
فيما لا يزال الغموض يلف العنف الذى وقع فى أمستردام بهولندا، الأسبوع الماضى، بعد مباراة كرة القدم التى جمعت بين فريقى أياكس أمستردام ومكابى تل أبيب، وسط تنديدات هولندية وإسرائيلية وحتى أممية، بالاعتداء الذى طال مشجعين إسرائيليين لفريق كرة القدم، أكد شهود عيان من أمستردام، أن عددًا من المشجعين الإسرائيليين بدأوا الاستفزازات، عبر تمزيق أعلام فلسطينية، كانت مرفوعة على واجهات بعض المنازل التى يقطنها مغاربة مقيمون فى المدينة، «ولم تتدخل الشرطة الهولندية لمواجهة أو وقف مشجعى النادى الإسرائيلى عن تمزيق الأعلام الفلسطينية»، لتتطور الأمور لاحقًا إلى اعتداءات ومواجهات.. كما أكد بعضهم، أن الإسرائيليين ينتهجون سياسة «ضربنى وبكى، سبقنى واشتكى»، فى إشارة إلى أنهم أشعلوا الغضب بتصرفاتهم، ثم راحوا يتباكون ويطالبون بالحماية، ويستنكرون.. وقد أظهرت مقاطع فيديو، تداولها العديد من المغردين على منصة «إكس» توثق ما وصفوه بالاستفزازات الإسرائيلية، ومنها عدد ممن يُرجح أنهم مشجعون للفريق الإسرائيلى، يرددون شعارات بالعبرية «اقضوا على العرب! سننتصر»، والعشرات من الأشخاص المُقنعين، الذين يرتدون ملابس سوداء بالكامل، وهم يرددون هتافات عدائية من بينها «اذهبى إلى الجحيم يا فلسطين»، وفق ما أفادت به وكالة فرانس برس.. وأوضحت «بى بى سى»، أن مشجعى مكابى تل أبيب، سبق لهم أن شاركوا فى حوادث عنصرية فى الكيان الصهيونى، كما هاجموا فى السابق المتظاهرين المعارضين لرئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، فيما أكدت شبكة «بى بى سى» البريطانية، أن اللقطات أظهرت أن مشجعى مكابى كانوا يسخرون ويطلقون صافرات الاستهجان فى الاستاد الرياضى، خلال دقيقة صمت على القتلى فى الفيضانات التى ضربت إقليم فالنسيا الإسبانى، ردًا منهم على اعتراف إسبانيا بالدولة الفلسطينية.
وأيًا كان ما حدث، وردود الفعل الرسمية عليه، فى أوروبا وأمريكا، التى وصلت حد وصفه بـ«معاداة السامية»، لدى بعض المسئولين الهولنديين، فإن ذلك يضع السؤال المهم أمام ناظرينا: هل تغير الرأى العام العالمى تجاه فلسطين؟
●●●
نعتقد أن معركة «طوفان الأقصى» فى السابع من أكتوبر 2023، وماتلاها من تدمير إسرائيل لقطاع غزة، وترويع السكان وقتل المدنيين الأبرياء، الذى وصل إلى الإبادة الجماعية، جسَّدت لحظة فارقة فى التاريخ المعاصر للقضية الفلسطينية؛ حيث أدت إلى تغيير جوهرى فى الرأى العام العالمى، كما يقول الكاتب لؤى صوالحة.. إذ تأتى هذه المعركة، فى وقت يعانى فيه الشعب الفلسطينى من انتهاكات متكررة للحقوق الإنسانية، ما دفع المجتمعات الدولية إلى إعادة تقييم موقفها من الصراع.. إن تصعيد الأعمال العسكرية فى قطاع غزة، الذى أسفر عن عشرات آلاف الشهداء من المدنيين، غير المُصابين والمفقودين، كان له تأثير عميق على مدى وعى العالم بالمأساة الفلسطينية.. فقد أظهرت الصور والمشاهد المروعة من أرض المعركة، معاناة لا يمكن تجاهلها؛ فالأطفال والنساء الذين أُجبروا على مواجهة القصف والتهجير، أصبحوا رموزًا للظلم الذى يتعرض له الفلسطينيون.. هذه اللحظات المؤلمة، التى تُنقل عبر وسائل الإعلام التقليدية ووسائل التواصل الاجتماعى، تجذب الانتباه وتُثير مشاعر التعاطف فى قلوب الناس حول العالم.. ووفقًا لتقارير منظمة العفو الدولية، قُتل نحو 43 ألف مدنى فلسطينى خلال الحملة العسكرية، حتى الآن، ثلثيهم من النساء والأطفال الأبرياء، ما يعكس حجم الكارثة الإنسانية التى يعيشها القطاع.
إن الوضع الإنسانى فى غزة يقترب من الكارثة، حيث يعانى السكان من نقص حاد فى المواد الغذائية والمياه والرعاية الصحية.. وتؤكد تقارير المنظمات الإنسانية، مثل الأمم المتحدة، أن حوالى 1.6 مليون فلسطينى فى غزة، بحاجة إلى مساعدات إنسانية عاجلة، ما ينذر بكارثة إنسانية وشيكة.. فى خضم هذا الوضع الأليم الذى يستدعى تدخلًا عاجلًا من المجتمع الدولى، حيث يجب على الحكومات اتخاذ مواقف واضحة تساند حقوق الشعب الفلسطينى، وتساعد فى رفع المعاناة عن كاهله.. وتقوم منظمات حقوق الإنسان بدور حيوى فى توثيق الانتهاكات المستمرة التى تُمارس بحق الفلسطينيين؛ إذ تُعد هذه المنظمات مصدرًا موثوقًا للمعلومات، حول عمليات القصف والتهجير والتعذيب فى السجون.. ومع تطور وسائل الإعلام الاجتماعية، تزداد سرعة انتشار هذه المعلومات، ما يُعزز النقاش حول حقوق الإنسان ويُبرز ضرورة إنهاء الاحتلال.. وقدمت منظمة هيومن رايتس ووتش على سبيل المثال تقارير دقيقة حول الانتهاكات المستمرة، ما يعزز وجود القضية الفلسطينية فى النقاشات السياسية العالمية.
التحولات فى الرأى العام شملت أيضًا تزايد التفاعلات الشعبية فى مختلف الدول.. لقد شهدنا مظاهرات حاشدة فى المدن العربية والغربية، تدعو إلى وقف العدوان الإسرائيلى ودعم حقوق الفلسطينيين، وهو ما يعكس تحولًا فى وعى الجمهور الأوروبى تجاه القضية الفلسطينية، حيث بدأت المجتمعات تدرك أن القضية الفلسطينية هى قضية إنسانية بامتياز، تتجاوز حدود المنطقة الجغرافية، وينبغى أن يتجاوز المجتمع الدولى مجرد الإدانات الكلامية، إلى تبنى سياسات فعالة تدعم الحقوق الفلسطينية، مثل فرض عقوبات على الاحتلال، وتعزيز الضغط على الحكومات لتغيير سياساتها، بعد أن أصبحت وسائل التواصل الاجتماعى، أداة قوية لنقل التجارب الإنسانية للفلسطينيين، حيث تمكنهم من توثيق حياتهم اليومية تحت الاحتلال.. هذه المنصات تعكس الحقائق بشكل مباشر، ما يزيد من صعوبة تجاهل معاناة الشعب الفلسطينى.. الصور والقصص التى تُنشر تسهم فى خلق حالة من التعاطف العالمى، وتُسلط الضوء على واقع الاحتلال المُظلم. وقد أصبحت الحملات الرقمية أيضًا، مثل For Gaza Pray، وسيلة لجمع الدعم وتوعية الناس بالوضع الإنسانى فى غزة، حيث لقيت صدىً واسعًا على منصات، مثل: إكس وإنستجرام.
ومع تزايد الضغوط الدولية، برزت حركات تدعو إلى مقاطعة إسرائيل وفرض عقوبات عليها، مما يعكس وعيًا متزايدًا بأهمية التضامن مع الشعب الفلسطيني.. هذه الحركات، التى تشمل شخصيات عامة ومثقفين ونشطاء، تُظهر قدرة المجتمع المدنى على التأثير فى السياسات الحكومية.. فى الولايات المتحدة على سبيل المثال أدت الحركات الطلابية إلى دعوات لمقاطعة الشركات التى تستثمر فى إسرائيل، ما أثار نقاشات واسعة حول المساءلة وحقوق الإنسان.. ومع ذلك، ينبغى أن يتجاوز المجتمع الدولى مجرد الإدانات الكلامية. كما قلنا، وأن يتبنى سياسات فاعلة تدعم الحقوق الفلسطينية، مثل فرض عقوبات على الاحتلال، وتعزيز الضغط على الحكومات لتغيير سياساتها.. يمكن أن تؤدى الحكومات دورًا مهمًا فى دعم تحقيق العدالة، من خلال دعم المبادرات التى تهدف إلى إعادة بناء غزة، وتقديم المساعدات الإنسانية العاجلة. إضافةً إلى ذلك، يتعين على المؤسسات الدولية، مثل الأمم المتحدة، أن تتخذ خطوات فاعلة لوضع حد للاحتلال، وتقديم حلول عادلة للصراع.. وتدعو الحاجة إلى تعزيز التعليم والتثقيف حول القضية الفلسطينية، حيث يجب على المؤسسات التعليمية ووسائل الإعلام تقديم معلومات دقيقة وموضوعية.. لأن نشر الوعى حول تاريخ الصراع، ومعاناة الفلسطينيين، يسهم فى تعزيز التضامن الدولى، ويُشجع على تبنى سياسات أكثر إنصافًا.. كذلك، من الضرورى دعم البرامج التعليمية التى تُروِّج للسلام والعدالة فى المنطقة، فإن ذلك يساعد على بناء جيل جديد من القيادات المتعاطفة مع حقوق الإنسان.
●●●
من الطبيعى، أن لا تقف إسرائيل، حيال ذلك، مكتوفة الأيدى، وهى التى أشاعت سرديتها التاريخية عن نفسها، باعتبارها شعبًا مظلومًا، يريد العيش فى سلام، وسط وحوش آدمية، اسمها الفلسطينيون، بعدما عانى اليهود من قبل فى محارق الهولوكست، أكذوبتهم التاريخية التى وجدت صدى واسعًا حول العالم، وصارت العبارة الأشهر فى التاريخ، على لسان كل مسئول فى الغرب، «حق إسرائيل فى الدفاع عن نفسها»!!.. ذهب قادة الكيان الصهيونى إلى تأسيس ما أسموه «هاسبارا»، آلة الدعاية التى تعتمدها الحكومة الإسرائيلية فى أرجاء العالم، لتبييض مجازرها وانتهاكها حقوق الإنسان والقانون الدولى، خلال الحروب التى تخوضها ضد الفلسطينيين فى الأراضى المحتلة.. وتستخدم إسرائيل «هاسبارا»، باعتبارها تقنية دبلوماسية عامة، تُسخّر فيها المعلومات المضلّلة وتربطها بأهدافها الاستراتيجية لتبرير أفعالها. وتُعد إحدى جبهات الحروب الإسرائيلية.
وتُعد الدعاية الإسرائيلية من أنجح الدعايات الإعلامية التى تقوم بأكبر عملية غسل أدمغة على المستوى العالمى، لما يملكه الإسرائيليون فى العالم من إمكانات اقتصادية ومالية ضخمة، إضافة لمعرفتهم كيفية مخاطبة العقل الغربى، إذ سهّلت عليهم جذورهم الغربية أن يحققوا أكبر عملية إقناع وتزوير لمصلحة «قضيتهم» القائمة على تهويد فلسطين وتغيير معالمها وتفريغها من سكانها الأصليين.. وكان من أهم ما أنتجته هذه الدعاية لتحقيق أهدافها هو «هاسبارا»، وهى كلمة فى اللغة العبرية تعنى الشرح أو التفسير أو التوضيح.. وتُعَد من الاستراتيجيات التى يعتمدها الاحتلال لبناء صورته فى الخارج، وهى صورة تواجه انتقادات منذ الإعلان عن قيام إسرائيل عام 1948، وأيضًا من أجل تفسير سياساتها، وتقديم تقارير عن الأحداث ونشر معلومات إيجابية عنها لمواجهة أى نقد تتعرّض له.. وهى أشبه بحملة علاقات عامة دولية لمصلحة إسرائيل، يقوم بها خبراء فى التواصل وأساتذة جامعات وطلاب أكاديميون، وضباط استخبارات وإعلاميون فى مختلف وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية والإلكترونية.
وغالبًا ما تُستخدَم كلمة «هاسبارا» لوصف الدعوة المؤيدة لإسرائيل، ويُطلق عليها أيضًا تقنية الدبلوماسية العامة، التى تربط حرب المعلومات بالأهداف الاستراتيجية، لتصدير صورة إيجابية لإسرائيل على المسرح العالمى، أو توضيح وجهة نظر الحكومة الإسرائيلية وتعزيزها فى مواجهة الصحافة المُنتقدة لها، ولشرح سياساتها وتبرير أفعالها والدعاية لإسرائيل عمومًا.. وقد باتت كلمة «هاسبارا» تعنى مجازًا، مرادفًا لكلمة «بروباجندا» فى اللغة اللاتينية، التى تعنى الدعاية، عبر نشر معلومات وإشاعات وأنصاف حقائق أو أكاذيب، للتأثير فى الرأى العام، وغالبًا ما تُنقل من خلال وسائل الإعلام.. وهى جهد منهجى إلى حد ما، للتلاعب بمعتقدات الآخرين أو مواقفهم أو أفعالهم، عن طريق الرموز «الكلمات والإيماءات واللافتات والآثار والموسيقى والملابس والشارات وتسريحات الشعر والتصميمات على العملات المعدنية والطوابع البريدية وما إلى ذلك».
يعود تاريخ «هاسبارا» إلى ما قبل ولادة إسرائيل، إذ كان ناحوم سوكولوف، أحد زعماء الحركة الصهيونية، أول من أدخل هذا المصطلح رسميًا على المفردات الإسرائيلية مطلع القرن العشرين، من خلال كتاباته ومؤلفاته عن الحركة الصهيونية.. أعطى سوكولوف كلمة (هاسبارا» العبرية، مفهومًا سياسيًا إعلاميًا، وقد ابتكر هذه الكلمة، لأن البديل الشعبى غير المقبول هو «الدعاية»، فأراد أن يعطيها تعريفًا أكثر دقة وجدة.. كان يؤمن بأنها استراتيجية تواصلية «تسعى إلى شرح الأفعال، سواء كانت مُبررة أم غير مُبررة»، معتبرًا أن المصطلح الجديد يمثل نهجًا دفاعيًا ومقنعًا بطبيعته، ومتجذرًا بعمق فى الثقافة اليهودية، ويهدف إلى الحصول على الدعم الدولى للسياسة الإسرائيلية والحفاظ عليه.. وكان يرى أن أى مستوطنة تُنشأ على أرض فلسطين، ستُعانى من تصوّر سيئ وصورة سلبية.. كما اعتبر سوكولوف، أن «هاسبارا» تمثّل شكلًا طبيعيًا للحركة الصهيونية، ودعا إلى نشرها بين مستشارى أوروبا، ومن خلال الخطب العامة، باعتبارها وسيلة للقادة من أجل «توضيح تطلّعات الشعب اليهودى للسلطات»، فى وقت كانت كراهية اليهود جزءًا من الثقافة الأوروبية فى تلك الحقبة.
●●●
تدرك إسرائيل أن الروايات التى ترويها لنفسها وللعالم مُلفقة، وأنها دولة غير قانونية وغير عادلة.. لذلك، خلال الحروب الكثيرة التى شنّتها، سواء على الفلسطينيين داخل الأراضى المحتلة أو على بعض الدول العربية المحيطة بها، اعتمدت «الهاسبارا» سلاحًا إضافيًا من أجل السيطرة على الرأى العام، والتلاعب بالمعلومات والترويج لسرديات مخادعة، عن كلّ وجه من أوجه الإبادة التى ترتكبها.. غير أن التطبيق الرسمى للـ«هاسبارا» دخل حيّز التنفيذ المؤسساتى على نطاق واسع، عقب اجتياح إسرائيل لبنان فى صيف 1982، وارتكابها مذبحة ضد اللاجئين الفلسطينيين فى مخيمى صبرا وشاتيلا، جنوبى بيروت فى سبتمبر من ذلك العام، قُتل فيها نحو ٣ آلاف وثلاثمائة شخص.. وتسبب ذلك الحدث فى ظهور رواية مختلفة للصراع الإسرائيلى الفلسطينى، قدّمت إسرائيل على أنها المعتدية.
هذه السمعة السيئة لإسرائيل عالميًا، التى تناقلتها وسائل الإعلام الأمريكية عقب مجزرة صبرا وشاتيلا، دفعت المؤتمر اليهودى الأمريكى إلى رعاية مؤتمر عُقد فى القدس عام 1983، لوضع استراتيجية علاقات عامة رسمية «هاسبارا»، لتكون الآلة الدعائية لغسل اسم إسرائيل، وجعل انتقاد تصرفاتها أمرًا صعبًا للغاية.. وضم المؤتمر متخصصين فى العلاقات العامة والإعلانات وصحفيين وخبراء إعلاميين وقادة جماعات يهودية كبرى.. وطُرحت خلال المؤتمر أفكار عدة، مثل «مواجهة الحقيقة، عبر لعبة تغيير عقول الناس، وجعلهم يفكرون بطريقة مختلفة، من خلال استخدام البروباجندا».. وتلا ذلك، تغيير فى الاستراتيجية الإسرائيلية فى التعامل مع الأزمة الفلسطينية، انطلاقًا من مبدأ، أنه «مهما فعل الفلسطينيون، فسيعمم على أنه عُنف غير مُبرَّر ضد اليهود، أساسه نوع بدائى من معاداة السامية».. وعليه، تحوّل الصراع الإسرائيلى الفلسطينى، من صراع يتمحور حول الأرض إلى كراهية اليهود، ومن ثم لم يعد الأمر فى الدعاية الإسرائيلية يتعلق بالمستوطنات، بل أصبح بشكل مستمر، عن كون الفلسطينيين يكرهون الإسرائيليين فقط، لأنهم يهود!
وتحت مظلة «هاسبارا»، أُنشِئت هياكل دائمة فى الولايات المتحدة وإسرائيل للتأثير على كيفية تفكير العالم، وخصوصًا الأمريكيين، بشأن إسرائيل والشرق الأوسط فى المستقبل.. وطُورت مجموعة نقاط، بهدف التركيز عليها فى مخاطبة الرأى العام، من بينها: أهمية إسرائيل الاستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة، وقيمها الثقافية المشتركة مع الغرب، ورغبتها فى السلام.. ويضم جهاز «هاسبارا» وكالات حكومية ووزارات ومراكز بحوث ومنظّمات غير حكوميّة، إضافة لقسم فى مكتب رئاسة الوزراء، وقسم الإعلام والدبلوماسية العامة فى وزارة الخارجية ووزارة الدبلوماسية العامة وشئون المغتربين «سابقًا»، والوكالة اليهودية لأجل إسرائيل «وهى جزء من المنظّمة الصهيونية العالمية»، ووزارة السياحة وقسم الناطق باسم الجيش الإسرائيلىّ، ولكلّ منها أدوار تفصيلية مُحددة.. وتتولى حكومة الاحتلال تمويل مشروع «هاسبارا» بدعم هائل من أفراد وشركات عالمية، حتى باتت المؤسسات الإخبارية والصحفيون والأكاديميون والسياسيون والفنانون، يتوقعون الضغط إذا خرجوا عن مستوى الخطاب المقبول الذى أنشأته إسرائيل ومؤيدوها.. وتُرفض الروايات البديلة التى تكشف انتهاكات إسرائيل، باعتبارها معادية للسامية.
وفى كل مرة كانت ترتكب فيها إسرائيل جرائم حرب فى حق الفلسطينيين، لعبت «هاسبارا» دورًا مهمًا فى خداع الرأى العام الدولى للإفلات من العقاب.. إذ تدرك الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، أنها لا تستطيع أن تفعل ذلك، إلا إذا كانت هناك آلة دعاية قوية بما فيه الكفاية، يمكنها مواجهة الإدانة العامة الحتمية والتضامن الدولى مع الشعب الفلسطينى.. وتطبيقًا لاستراتيجية الدبلوماسية العامة للسيطرة على السرد والتلاعب بالمعلومات، تلجأ «هاسبارا» إلى إنجاز مهماتها، عبر استهداف الدبلوماسيين والسياسيين والجمهور، من خلال وسائل الإعلام، وأيضًا خلال الكثير من المعاهد والوكالات الحكومية، وكذلك مراكز البحوث والجامعات والمنظمات غير الحكومية وشركات الضغط.
●●●
أطلقت الوكالة اليهودية «دليل هاسبارا» على الإنترنت، للطلاب فى جميع أنحاء العالم، لاستخدامه للدفاع عن إسرائيل وسياساتها.. وهو كتيّب تدريبى، يشرح تفصيليًا استراتيجيات الدفاع وأسس المجادلة والدخول فى النقاشات، محددًا مجموعة من الأهداف أهمها: تبرير الهمجية والوحشيّة تحت عنوان «محاربة التطرّف والإرهاب».. اختلاق الوقائع وقلب سياقها، فى إطار تزييف الأحداث وتشويه الحقيقة والتلاعب بالوعى، وصرف الأنظار عن المجرم الحقيقى.. تحوير أى نشاط معارض لإسرائيل وتحويله إلى نشاط «معاد للساميّة»، وهى تهمة يُعاقب عليها القانون فى بلدان عدّة.. تشويه سمعة أى جهة تنتقد إسرائيل ولو بالشعارات والخطابات.. ترويج صفة «اليهودى الكاره لنفسه» فى مقابل اليهود المعارضين لإسرائيل وأفعالها.. الترويج لفكرة أن إسرائيل ضحيّة بريئة تتعرّض لتهديد إرهابى، ومن ثم فإن أى انتقاد موجّه إليها سيتحوّل إلى تبرير للإرهاب.. دفع شركات الإنترنت الكبرى إلى اتخاذ تدابير صارمة بحقّ الأصوات المعارضة، والتواطؤ معها لقمع الرأى الآخر، وإغلاق الحسابات المنتقدة واعتبارها حسابات «معادية للساميّة»، وقد شاهدنا ذلك خلال الهجوم الوحشى على إسرائيل ولبنان الآن.. تنظيم دورات تدريبية فى مجال المعلوماتية والإنترنت، وعلى كيفية التعامل مع مواقع التواصل الاجتماعى، لضمان ظهور المنشورات والتعليقات التى تتناسب مع أهدافهم.. إطلاق التطبيقات الهاتفية، وهى من أهمّ أدوات وأسلحة حربهم الإعلامية، لنشر مهمّات للمتطوّعين الراغبين فى تنفيذها.. التبليغ عن الصفحات الإلكترونية المعادية لإسرائيل والمتعاطفة مع القضية الفلسطينية حول العالم، وعلى رأسها صفحات «حملة مقاطعة إسرائيل».. إطلاق «زمالات هاسبارا»، وهو برنامج تدريب وتجنيد متطوّعين إسرائيليين ومن غير الإسرائيليين، لا سيما من طلّاب الجامعات الذين تُقدّم لهم منح دراسية أكاديمية، فى أرقى الجامعات الأمريكية والكندية والأوروبية.
وتعتمد إسرائيل فى بعض البلدان، مثل الولايات المتحدة، على «الطابور الخامس»، من المتعاطفين الناشطين لتضخيم رسائلها، ودحض وتشويه التصريحات التى تتعارض مع رواياتها، والطعن فى الموقف الأخلاقى للذين ينتقدون جرائمها.. ومن شأن أساليب التضليل، تحريف الحقائق وتزويرها، وجعل المجرم والضحيّة متساويين، إضافة للترويج لإسرائيل باعتبارها «دولة ديمقراطية» تتعرّض لحملات الكراهية من جيرانها، دون سبب.. وبواسطة التضليل وتشويه الحقائق وإخفاء الأدلة والشواهد، تتصدى «هاسبارا» لأى محاولة لإدانة إسرائيل وممارساتها، وتسعى إلى اعتراض موجات التعاطف مع القضية الفلسطينية فى أرجاء العالم، من خلال توجّهها أى هاسبارا إلى كلّ الشعوب والمجتمعات وخاطبتهم، كل بحسب ثقافاته وعاداته وتوجّهاته الفكرية والعقائدية، من أجل اللّعب على التناقضات والعواطف والمشاعر بما يخدم مصالحهم، تارةً من خلال سرديّة المظلومية اليهودية عبر التاريخ، وطورًا من خلال سردية الوجود بحكم القوّة والأمر الواقع، وإظهارها بوجه حضارى والعمل على «أنسنة» الاحتلال.
ومع دخول العالم العصر الرقمى مطلع الألفية الثالثة، اتخذت «هاسبارا» منحى متطوّرًا وأكثر دقة فى استهداف الجمهور، مُتسلّحة بأحدث ما توصّل إليه العلم من تقنيات، انطلاقًا من إدراك إسرائيل، أنه فى الحروب الحديثة، فإن السيطرة على بيئة المعلومات هو بأهمية السيطرة على ساحة المعركة.. ولأن «هاسبارا» متعددة الأوجه ومتكيّفة بشكل جيد مع العصر الرقمى، أوجدت إسرائيل شراكة بين القطاعين العام والخاص، تقود فيها الدولة ويتبعها المتطوّعون الملتزمون فى تنفيذ استراتيجية المعلومات، من خلال الاستخدام الكثيف لقنوات التواصل الأكثر انتشارًا وتأثيًرا، مثل «فيسبوك» و«إكس» و«إنستجرام» و«يوتيوب»، باعتبارها تسهم بقوة فى تشكيل الرأى العام.. وقد دفعت إسرائيل شركات الإنترنت الكبرى، إلى اتخاذ تدابير صارمة بحقّ الأصوات المعارضة، والتواطؤ معها لقمع الرأى الآخر، وإغلاق الحسابات المنتقدة واعتبارها حسابات «معادية للساميّة»، إذ تُحذف آلاف المنشورات والحسابات المتعاطفة مع فلسطين على تلك المنصّات وغيرها.
وفى هذا الإطار، نظمت إسرائيل وحدات حكومية وعسكرية مدنية لاستغلال الأمر، بما فى ذلك إنشاء مواقع إلكترونية وحسابات على وسائل التواصل الاجتماعى ورسائل منسوبة إلى هويات مزوّرة.. وتعلمت كيفية التعامل مع وظائف المتصفّح، وخوارزميات مُحرّك البحث، والآليات التقنية الأخرى، التى تتحكّم بالمحتوى المُقدَّم لمستخدمى الإنترنت، لإيصال الفكرة القائلة إن إسرائيل «ضحية بريئة للإرهاب الفلسطينى».. وهو ما تكرّره فى كلّ حرب تقريبًا، لتقليل غضب الرأى العام الخارجى ضدها.. وتسعى إسرائيل، من وراء نشر تلك الروايات وترويجها، إلى إقناع الرأى العام العالمى بأن «اليهود أساس الحضارة فى أرض فلسطين وأحق الناس بها»، ومن ثم الحصول على تعاطفه وتأييده للمشروع الصهيوني.. وصممت إسرائيل بذلك رواية عن نفسها، باعتبارها أمة صغيرة ولكنها «شجاعة تدافع عن نفسها ضد العنف والإرهاب الفلسطينى»، ونتيجة لحملتها التضليلية الفعّالة، أصبح عدد كبير من الأمريكيين يعتقدون، أن إسرائيل دولة ديمقراطية وتقدمية وإنسانية!
إلا أن عملية «طوفان الأقصى» تبقى علامة فارقة فى التاريخ المعاصر، تعكس قوة الإرادة الفلسطينية، وقدرتها على مواجهة التحديات، وأن الظروف الصعبة التى يعيشها الفلسطينيون، تُجسد نضالًا مستمرًا من أجل حقوقهم المشروعة.. وعليه، فإن المجتمع الدولى مُطالَب بأن يتجاوز سياسة الحياد، وأن يتبنّى مواقف تدعم العدالة، خصوصًا وقد أصبحت صورة ما يجرى من تدمير فى ثطاع غزة، وقتل وتجويع لشعب أعزل، معروضة بوضوح أمام أعين العالم، رغم الحصار الإعلامى الغربى والإسرائيلى عليها، فإن الصورة فى كل الأحوال لا تكذب، ولن تختفى، لتبقى مُوجِعة لضمير العالم.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين آمين.