لماذا كل هذه الدوشة؟
على مدار ما يقرب من ثلاثة أسابيع تابعت مندهشًا ما يجرى فى ساحة كرة القدم.. نعم أحب هذه الساحرة المستديرة.. وأتابع نجومها.. وأستمتع أحيانًا بمبارياتها.. وأتقصى أحدث ما يكتبه دراويشها من عبارات التحفيل بنفس القدر الذى أتابع به العبارات التى يكتبها سائقو ميكروباص فيصل على خلفية سياراتهم.. أعتبرها تعبيرًا لطيفًا من تجليات المصريين فى يومياتهم.. لكننى انزعجت فى الأيام الأخيرة.. وبعد أزمة حبس ثلاثى الزمالك وتغريم كهربا مليون جنيه لمخالفة ما ارتكبها.. هالنى أن يخرج إلى العلن كل ذلك التشفى.. فى نجوم الكرة.. وفى أموالهم التى يعتبرها البعض حرامًا.. فى ظل أجور متدنية لا تستطيع مجابهة السوق ومتطلبات الأسر الفقيرة والمتوسطة أيضًا.. هالنى أن يعتبر البعض لاعبى الكرة والمذيعين ونجوم الإعلام والتمثيل.. من بلد آخر.. كأنهم فجأة أصبحوا بشرًا غيرنا.. وجرى خلط متعمد بين سيرهم الشخصية وسير الكبار من نجوم مجتمع الأعمال أيضًا.. حالة من البغض تجلت فى حوارات المقاهى.. تلت حوارات سابقة عن عالمين نحيا بينهما.. عالم مصرى.. وعالم إيجبتاوى.. هذه النغمة الغريبة تفزعنى عند إحالتها إلى سنوات ما قبل يوليو ١٩٥٢.. لقد قالها أحدهم وهو رجل كبير السن لا يتحدث كثيرًا معلقًا على جاره الذى يشكو من كثرة إعلانات الشقق التى تطارده من مندوبى المبيعات.. وأقل شقة يتعدى سعرها العشرين مليونًا.. عندما أنهى وصلة استنكاره لعبط المتصلين بمقولة.. شكلهم فاكرينى كهربا.. ولا زيزو.. ؟
قال الرجل السبعينى وهو يشد أنفاس الشيشة بهدوء.. شكلنا هنحتاج ندوب الطبقات تانى.. شكلها فى المرة الأولانية مادابتش كويس.. والغريب أن معظم الجالسين زادوا عليه بأن الأمر أصعب.. لقد كانوا طبقتين فقط.. الآن مليون طبقة وطبقة.
حديث الطبقات فى مقاهى الكرة.. من الطبيعى أن يمتد إلى كل من يمتلك مالًا.. ومن الطبيعى أن ننعته بكل الرذائل.. ومن الطبيعى أن يكون حديث البلوجر التى صرحت بأن عرسانها زادوا بعد نشر فيديو إباحى لها ومن أعلى الطبقات.. من الطبيعى أن يكون خاتمة السهرة.. ليس رجمًا للمذيعة التى حاورتها.. ولا للبلوجر ذاتها.. ولكن الطبقة الشهوانية التى أفرزت عرسانها الجدد.. فهم حتمًا يليقون بها.. وتليق بهم.
هذا الحنق.. ليس مجرد فضفضة مقاه ويمكننا أن نعتبره كذلك إن أردنا.. أراه اتجاهًا يتجاوز أى تفكير عاقل.. لقد تجاوزنا مرحلة التفكير فى مشكلاتنا وحلولها.. إلى الحنق على كل شىء.. وأى شىء حتى وإن كان نجوم الكرة.. أو الغناء لا فرق.
لقد سألنى أحدهم.. مش إنت كنت تعرف شيرين؟.. أجبت نعم منذ سنوات بعيدة مضت.. ثم أضاف.. وعرفت أنها بتاخد ١٥مليونًا فى الساعة..؟ قلت أكيد لا.. لأننى لا أعرف كم يبلغ أجرها الآن.. ولست معنيًا بأن أعرف.. هناك من يطلب غناءها ويدفع ما تستحقه من أجر.. وكل ما أعرفه أن الحكومة تحصل على ضرائب هذه الحفلات أولًا بأول.. وأضفت.. مش كل المطربين بياخدوا ملايين.. شيرين نفسها عاشت سنوات طويلة تعمل ليل نهار قبل أن تحصل على عشرة آلاف جنيه.. ضحك وأضاف: مش ده الموضوع.. الموضوع إن فيه ناس عندها استعداد تدفع كل هذه الملايين.. وإحنا بنكح تراب..؟
صار الأمر ترصدًا غير محبب إلى النفس.. وصارت أجور النجوم سببًا لإبعادهم عن كونهم منَّا.. بالتأكيد لسنا جميعًا من يراهم أو ينظر لهم بهذا الشكل.. لكن هناك جبال من الغشاوة تدوس على عيوننا لأسباب لا دخل لهؤلاء النجوم بها.
على العكس من هذه النظرة القاهرية للفن وأهله.. فاجأنى صياد التقيته فى عزبة البرج وهو يتحدث بحب عن مسلسل منى زكى «تحت الوصاية»، الذى تم تصويره ببلدتهم.. قال وعيونه تكاد تدمع.. إنتو نسيتونا كتير يا أستاذ.. عارف آخر مرة جه فيها فنان يزورنا هنا كان إمتى..؟ وأجاب: كانت نعيمة عاكف من سنين ياما.. منى الله يكرمها افتكرتنا.. هيه والناس اللى معاها.. طلعتنا حلوين.. وطلعت بلدنا حلوة.. ناس كتير جم هنا.. أجانب ومصريين بعد المسلسل ما اتذاع.. وعايزين يسمعونا وإحنا بنتكلم لهجة المسلسل.. شفت لما افتكرتونا الناس افتكرتنا إزاى.. ماتبقوش تنسونا تانى.. ذلك الصياد البسيط الحكيم أدرك قيمة الفن.. والفنانين.. انتظرت أن يسألنى عن أجر منى فى المسلسل، لكنه لم يفعل.. فقط أضاف وهو يبتسم مودعًا: لو شفت الست منى سلم عليها.
فى طريق عودتى.. أدركت أن مصر أكبر من حالة الشتات التى سببتها أحوال الاقتصاد.. الظروف الضاغطة على معظم أهالينا حولت بوصلة مودتهم وضحكاتهم إلى شوارع ما كان لنا أن نمشى فيها.. وما كان لنا أن نكشف عوراتها من الأصل.. لتظل الكرة والغناء والمسرح.. كما كانت.. ساعات للمتعة والبهجة والمعرفة أيضًا.