خلال ملتقى ذاكرة القصة المصرية..
حمدى سليمان: العناصر الأنثروبولوجية حاضرة بقوة فى الأعمال السردية
بدأت قبل قليل، الجلسة الثالثة لملتقى ذاكرة القصة المصرية، بمركز سيا الثقافي، بحضور الناقد د.حمدي سليمان والناقد د. يسري عبدالله. والكاتب القاص هاني منسي.
وفي شهادته المعنونة بـ"الواقعية الاجتماعية والحضور الأنثروبولوجي"، قال د. حمدي سليمان: كانت العناصر الأنثروبولوجية حاضرة بقوة في الأعمال السردية، منذ ظهور تلك الأنواع "القصة والرواية" في مصر، وربما كانت الجوانب السلبية من هذه العناصر الأنثروبوثقافية هي الأوفر حظا في التناول، وفرضت نفسها على مضمون وموضوع العديد من تلك الأعمال السردية، وهو ما أطلق عليه بعض النقاد في ذلك الوقت "النقد الاجتماعي"، حيث كان السرد ساحة لمناقشة علاقة التقدم والرخاء بالأخلاق والمعتقدات والقيم، التي تحكم تصورات الناس السياسية والاجتماعية والإصلاحية، وعلاقة كل ذلك برؤيتهم للمستقبل ونوعية الحياة والحرية والتحرر. وأعتقد أن الأشكال الزجلية وشعر العامية في بدايته، قد انشغل كثيرًا بنفس موضوعات النقد الاجتماعي تلك، حتى أصبحت تلك الرؤى مصدر جدل ونقاش، خاصة بين الفئات المثقفة، التي نالت قدرًا من التعليم العالي في مصر أو التي أتيح لها السفر أو الدراسة بالدول الأوروبية، وكان سؤال التقدم- والذي كان غالبًا وفق النموذج الغربي-.
وتابع "سليمان": يتطلب السؤال عن العناصر الثقافية المعيبة والمعطلة، ومعرفة النقائص ومكمن الخلل الذي يمنع مصر من النهضة ويعيق عملية التقدم. وقد أظهر هذا الجدل رؤية النخبة المصرية الجديدة، التي كانت تتولى أمر تحديث نظام التعليم، وتأسيس النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي الحديث، وتأسيس رؤية جمالية جديدة، والتي كانت تؤمن أن صناعة نهضة مماثلة للنهضة الأوروبية تستلزم تبديل أذواق وعادات الشعب بأكمله. وقد خطت النخبة في ذلك على خُطى رفاعة الطهطاوي، الذي كان قد كرس مؤلفه من قبل "مناهج الألباب المصرية" لتتبع سمة الكسل على طول التاريخ حتى قدماء المصريين، ثم ينتهي إلى "ضرورة أن يكون هناك مدرس حكومي في كل قرية ليعلم أبنائها مبادئ الأمور السياسية والإدارية وفهم أسرار المنافع العمومية". ومن هنا بدأ سيل الكتابات التي تُلصِق صفة الكسل والتخلف بعموم المصريين والشرقيين كلهم. وربما واكب ذلك ظهور الخطاب الاستشراقي الذي يفرق بين الذات الأوروبية النشيطة والمتقدمة، وبين الآخر الشرقي الكسول المراوغ المتخلف، متبلد الحس الخاضع لرؤسائه، الذي ليس لديه القدرة على التفكير العقلاني، ويتأثر بسهولة بالمعتقدات والممارسات الخرافية.
وأضاف: رغم أن هذا التوصيف فيه شيء من الصحة، فإن تعميمه كان منهج السلطة لإقناع المصريين أن النقص داخلهم، وليس في الظروف السياسية والاجتماعية، وليس في الاستغلال الاقتصادي لكبار ملاك العزب الزراعية والمصانع والتجار الذين يخدمون مصالح السلطة. وقد تضمنت الكثير من الأعمال الإبداعية بشكل مباشر أو غير مباشر في تلك الفترة هذه الرؤية، منها على سبيل المثال.. حديث عيسى بن هشام لـ محمد المويلحي..، أول عمل أدبي مصري في العصر الحديث، ظهر بنهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ويتناول الواقع المصري بشكل نقدي، حيث يستغل الكاتب شخصية عيسى بن هشام راوي مقامات بديع الزمان الهمزاني، ليحكي للناس حلمًا رآه في نومه، متخذًا من حكاية المنام موضوعًا شيقًا وبناءً بسيطًا يستغله لوصف أخلاق الناس في المجتمع ومعاملاتهم وتقييمها، وطبيعة علاقاتهم في الطبقات الاجتماعية المختلفة، فيرصد نقائص الأخلاق وما يعيبُ الإنسانَ منها، داعيًا إلى تجنبها.
وأكد فضائل الأخلاق ومكارمها الواجب التزامها ليعتلي المرء بذاته ومجتمعه. وتطور الأمر بعد ذلك وأصبح هذا التيار الذي ينادي بالنهضة والتحديث فاعلًا في الحركة الإبداعية والثقافية وأيضًا السياسية، وكانت هناك مجموعة مجلة الفجر التي قادها أحمد خيرت سعيد التي كان شعارها "الهدم من أجل البناء"، وكان من أبرز أعضائها يحيى حقي، وربما ينضم لهذا التيار أيضًا رواية زينب لـ محمد حسنين هيكل، وعبدالله النديم في الاحتفاء في الاختفاء، ونائب في الأرياف لـ توفيق الحكيم، والأيام وشجرة البؤس لـ طه حسين، وفي قصص تيمور ويحيى حقي، ومحمود طاهر لاشين، وعيسى عبيد، وألبير قصيري التي كانت قصصه الواقعية الساخرة المأساوية.. فريدة واستثنائية مثله؛ ويوسف السباعي، والأرض لعبدالرحمن الشرقاوي، وأيضًا جيل الخمسينيات أدوار الخراط، ويوسف إدريس في الحرام وبيت من لحم، وعبدالرحمن الخميسي، وأبوالمعاطي أبوالنجا، ومحمد صدقي. وإن كان كبير السرد العربي نجيب محفوظ، ينتمي لتلك المرحلة، التي تتسم معظم قصصها بالواقعية التي لا تخلو من النقد الاجتماعي، والتي تكشف سطوة الثقافة السائدة على حياة الأفراد والتشوهات الاجتماعية، ومعارضة كل أشكال التحديث، والدور الوظيفي للدين الشعبي، وإيمان الناس بالممارسات الاعتقادية التي يصعب مواجهتها، إلا أن إبداعات محفوظ كانت فارقة على المستويين الفلسفي والجمالي، وكانت أكثر زخمًا وعمقًا.
واختتم: ومن المعطيات الثقافية الأنثروبولوجية التي تضمنها السرد على استحياء رغم أهميتها، موضوع الحرمان الجنسي الذى كان يعانيه الشباب المصري، وشباب الريف على وجه خاص، وما يعكسه هذا الحرمان في تصرفات الشباب وعلاقاتهم وأفكارهم وكما يشير الفنان فى رواية «العشاق الخمسة» ليوسف الشاروني، فقد كان الشبان ينتشرون بين المقاهي، يقتلون الوقت وبين الطرقات الكبيرة يتسكعون وراء الفتيات وقد ربط بينهم إحساس بالشقاء والفزع وتأرجح ما بين اليأس الكبير، والأمل الكبير محمد جبريل. وقد شكلت المجتمعات الريفية في الدلتا وصعيد مصر، إضافة إلى البيئات الشعبية بالقاهرة الكبرى والإسكندرية، وعوالم النصوص المحتضنة للفضاءات الأنثروبوثقافية.