قبل الشتا بشوية
أنا شخص لا يحب الشتاء.. لا أحب البرد.. وإن أحببت أيام ركية النار وشاى الزردة وشوى البطاطا على النار طول الليل.. أكره الشتاء وإن أحببت طلعة أطفال المدارس فى ساعة الندى..أكره الشتاء وإن أحببت طعامه وخضار زرعه وضحك الغيطان.. أكره الشتاء وإن أحببت فيروز وصوتها الشتوى..
الشتاء يعنى لى أيام جدى وستى والناس الطيبين فى البلد.. لمة البيت كله قبيل المغرب بالقرب من فرن الخبيز وربما فوقها طلبًا للدفء فى انتظار أطيب إفطار رمضانى.. وضحكات من القلب مع شويكار وفؤاد المهندس مع مسلسل ما بعد المغرب.. وربما حكايات حرافيش نجيب محفوظ عن الناجى وأهله.. ربما صوت سيد مكاوى يخترق سكون النعاس ويدعونا لسحور فى عز التلج.. برد شتاء الصعيد قاتل يغرس أنيابه فى اللحم غرسًا.. يدمى دون دماء.. وشمس ظهيرته أحد من السيف.. لكننا نحبه لأنه أيامنا البكر.. لكن غصة فى الحلق تذيب هذه المحبة الآن.. لماذا أشعر بانقباض شديد كلما تذكرت أنه على الأبواب؟!.. صحيح أنه البرد.. لكنه دفا الحبايب أيضًا فلماذا كل هذا الخوف من شتاء جديد لا يشبه أيامنا التى خلت؟!
ثمة غيوم تعبر سماوات أيامنا.. لا خوف من المطر فهو خير على كل حال.. لكن السماوات التى لا تزال ترخ قنابل وصواريخ على أطفال غزة تؤلمنا.. وإن لم يتألم العالم.. شحوب غريب فى السماوات يشبه دموع أطفال لبنان.. غموض مريب يلف السودان.. ليبيا لا يأتى من عند أهلها.. أو أهلنا القادمين من هناك ما يسر.. كيف لهذا المحيط أن يأتى بشتاء طيب إذن..
اكتشفت وأنا رجل يتقاضى أجرًا يعتبره البعض كبيرًا أننى عاجز عن ملاحقة طوفان الأسعار..لم يعد لما نكسب قيمة.. هذه هى لغة كل من ألتقيهم هذه الأيام.. الكل يتخوف من ضغوط أخرى لم تعد محتملة.. حالات متعددة تأتينا أخبارها من قرانا عن نساء معيلات ورجال كانوا مستورين تطاردهم شركات التمويل لعجزهم عن السداد.. بعضهم باع ما تبقى له من قطع أرض صغيرة.. وبعضهم رهن الأرض التى يزرعها ليأكل منها حتى يدفع ما تأخر من أقساط أرهقته وخوفًا من فضيحة محتملة.. لا أحدثكم عن أصحاب الملايين.. أتحدث عن آلاف قليلة اقترضها هؤلاء لسد الحاجة، لكنهم مع زيادة مصروفات أطفالهم وأراضيهم توقفوا عن السداد وتراكمت الفوائد.. لقد عجزوا بالفعل عن سداد هذه الآلاف الصغيرة.. هذا شتاء بغيض بلا شك..
عشرات الطلبات بحوذتى وصلتنى من أولياء أمور طلاب فى المدارس بعد بدء العام الدراسى لتحويل أنجالهم من الخاص إلى العام أو التجريبى ومن التجريبى إلى العام.. وكل هذه الطلبات لن تتم الاستجابة لها فقد بدأ العام الدراسى بالفعل.. ومر أول شهر منه.. بالتيلة.. الدروس الخصوصية كما هى وأسعارها زادت.. تكلفة تعليم طفل أصبحت أمرًا لا يطاق.. هل تعرف يا صديقى الذى يحب الشتاء لماذا يرغب هؤلاء فى نقل أطفالهم من مدارسهم التى اعتادوا؟.. لتوفير جنيهات لا يملكونها يا صديقى.
أنباء لا أعرف مدى دقتها تُنسب للوزير أنه قرر زيادة أسابيع الدراسة من ٢٣ أسبوعًا إلى ٣١ أسبوعًا.. هل يعرف سيادته ومستشاروه ماذا يعنى ذلك؟.. يعنى باختصار شهرين من العناء زيادة.
نعرف أننا نمر بمرحلة صعبة.. الناس تعرف ذلك.. وتقدر سعى الحكومة إلى تجاوز تحديات هذه المرحلة.. لكن هناك فارقًا بين أن أعرف وأقدر وأثمن وبين أننى لا أستطيع.. يا سيدى، بالفم المليان، نحن لا نستطيع.. ولم تعد هناك حيطان لنسند ظهورنا عليها.. وأمراض الشيخوخة تحاصرنا وأسعار الأدوية ليست فى متناول أيدينا فماذا نفعل؟.. لا إجابة عندى ولا عند غيرى.. فقط نحن ندعو أن يمر هذا الشتاء دون رعد.. أجسادنا أوهن من احتمال أى خلل فى جسد الشرق الأوسط الممزق فعلًا.
فى هذه الأجواء يصبح الحديث عن الأهلى والزمالك وكهربا وخناقة السوبر أو الدورى الجديد هلسًا.. يصبح الحديث عن مهرجان موسيقى عربى أو غربى ترفًا.. حتى تلك الكرة التى كنا نستعين بها للتهوين من مواجعنا لم تعد علاجًا ناجعًا.. صارت مرضًا وسببًا لشق الصفوف وقبحًا يزيد من قبح هذا الشتاء.
لم يبق لى سوى أغنية أحبها للصديق إبراهيم عبدالفتاح يغنيها على الحجار، اسمها «لما الشتا يدق البيبان».. لكنها تبكينى أيضًا.. وأنا فى هذا الشتاء لا أحتاج لهذه الدموع.. ولذا قررت مقاطعتها مع أشياء كثيرة نقاطعها رغمًا عنا فى هذه الأيام.