تراث عصمت النمر.. تراثنا
انزعجت مثل كثيرين غيرى من بوست كتبه المؤرخ الشاعر دكتور عصمت النمر على صفحته الشخصية فى أحد مواقع التواصل الاجتماعى، يعلن فيه عن عرض مقتنياته من تراث غنائى جمعه على مدار سنوات.
أعرف أن البعض لا يهمه أن تكون تلك المقتنيات باقات من الأغانى التى تسجل فترات مهمة من تاريخ مصر.. وأعرف أن كثيرين لا يفكرون الآن سوى فى سد حاجاتهم الأساسية.. وما عداها فهو ترف لا يجب الحديث عنه.. ثم إيه يعنى شوية أغانى من القرن اللى فات ولا اللى قبله.. لقد ضاع الكثير وأهملنا ما هو أكثر ففسد.
ولن يسمع هؤلاء ما سأقوله عن العائد الاقتصادى الذى يمكن أن يتحقق من هذه التسجيلات النادرة إن أحسن استغلالها.. وسوف يقولون: عندنا كتير.. وبالضرورة لن يستمع لك أحد إذا ما تحدثت عن القيمة الفكرية والثقافية والتاريخية لهذه التسجيلات.. لقد أصبح الحوار فى هذه الأشياء كلامًا فارغًا.. هذا أمر ليس بجديد.. فقد مضى نصف قرن تقريبًا على بداية عملية تجريف تراثنا.. ولقد بيع منه الكثير لمحطات وأشخاص.. وقد عرفت أن البعض يفكر فى بيع كنوز أرشيف المأثورات الشعبية المملوك لإحدى الجمعيات الثقافية.
ليس هذا ما أزعجنى ونغص علىّ ساعات أيامى الماضية.. الفكرة فى حد ذاتها مؤلمة.. لماذا يفكر أحدنا فى التخلى عن مشروعه وحلمه وشقى عمره بهذه السهولة؟.. أعرف أن الشاعر والمؤرخ الباحث المحترم عصمت النمر وهو يعيش بعيدًا عن زحمة الوسط الثقافى منذ سنوات متفرغًا لمنتدى سماعى والراديو الذى أطلق منذ سنوات لإذاعة كنوز التراث.. ليس من قبيل الانطواء أو إنكار الآخرين ولكن ليتخلص من فوضى وشللية العاصمة- كان راضيًا سعيدًا فماذا حدث؟
ما عرفته أن الرجل يمر فى السنوات الأخيرة بمتاعب صحية كبيرة ربما أرهقته ولم يعد قادرًا على تكاليفها.. ولا أظن أن الرجل العالم المخلص لعلمه وتاريخه لا يملك أطيانًا أو حسابات فى البنوك تساعده.. فهل تتخلى عنه وزارة الثقافة.. هل نتخلى عنه؟
لا أعرف طبيعة مرض الرجل فهو لا يشكو.. والقريبون منه يتحدثون عن حرجه الشديد وخجله الأشد.. الأمر يحتاج إلى تدخل عاجل.
ما يعرضه عصمت النمر للبيع.. ليس مجرد مكتبة موسيقية.. إنها آلاف الساعات من تراث الغناء المصرى تم نقلها من أسطوانات قديمة إلى وسيط حديث.. وجرى أرشفتها.. ومجهود الرجل لسنوات فى هذا العمل يستحق منحه جائزة الدولة وتكريمه.. أما ما يملكه فهو حق لمعرفة الأجيال القادمة.. وجب على كل المؤسسات المعنية أن تسارع لإيجاد وسيلة لاقتنائه.. والحفاظ عليه وإتاحته للباحثين والمهتمين والجمهور العام.
عصمت النمر.. ليس مجرد حالة.. هناك العشرات من حفظة التراث ومثقفينا الكبار دهستهم تقلبات الاقتصاد ومواجع المرض ولم يعد أحدهم قادرًا على المقاومة فى ظل انفلات لا رادع له بسوق العلاج.. معظمنا يعرف ما يجرى فى هذه السوق التى تحولت إلى مافيا تمارس ضغوطها المستفزة على الحكومة لزيادة أسعار منتجاتها.. وأغلب هؤلاء المثقفين كبار فى السن.. أمراض الشيخوخة والأمراض المستجدة هزمتهم.. ولأن أغلبهم لم يشغل باله سوى بمشروعه الفكرى يضطر إلى التفريط فى أغلى ما يملك.. تراثه ومقتنياته الشخصية.. الأمر عندى أقرب إلى من يبيع كليته ليأكل.. أو قلبه ليعيش.. أو بالأحرى ليموت كريمًا.
لا أنتظر من أحدنا شجنًا.. أو أدعية.. أو مواعظ.. هى دعوة واضحة للبحث عن صيغة لحفظ كرامة هؤلاء.. وتوفير العلاج المناسب لهم.. والحفاظ على منجزهم الفكرى والإنسانى.. أيضًا..
ما تفعله الدولة المصرية فى السنوات الأخيرة يجعلنى أتعشم.. وآمل.. أن يحدث ذلك سريعًا.. وأظننى على حق فى عشمى.