السينما المصرية والعروبة «3-3»
قبيل ثورة ١٩٥٢ ينتج الفنان الكبير فريد الأطرش أحد أفلامه الشهيرة «آخر كدبة»، وهو فيلم غنائى كوميدى خفيف، لكنه عظيم الأثر فى الاتجاه الذى نرصده هنا، وهو النزعة العروبية فى السينما المصرية فى عصر التحولات الكبرى عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. ويعتبر فريد الأطرش مثالًا حيًا على فكرة الفن والعروبة؛ إذ يقال إن هذا الفنان، سورى المولد، حاز على أربع جنسيات عربية: سورى ولبنانى ومصرى وسودانى. فى هذا الفيلم الكوميدى الخفيف، يخرج علينا فريد الأطرش بأوبريت غنائى غاية فى الأهمية فى شأن الدعاية للقومية العربية، فى هذه الفترة المهمة بعد تأسيس جامعة الدول العربية، وهزيمة حرب ١٩٤٨ التى عرفت فى الأدبيات العربية بالنكبة. ويحمل هذا الأوبريت عنوان «بساط الريح»، وما لبساط الريح من معانٍ فى الذاكرة الشرقية، منذ حواديت ألف ليلة وليلة، من قدرة على تحقيق الأحلام وإنجاز المستحيل.
بالقطع سيكون فريد الأطرش هو المغنى الرئيسى والملحن لهذا الأوبريت، لكن الذى لا يقل أهمية فى هذا الشأن هو مؤلف الأغنية، شاعر العامية الكبير بيرم التونسى، الذى يعد ظاهرة مهمة فى مسألة النزعة العروبية، وتعريب مصر أيديولوجيًا وسياسيًا؛ إذ يعتبر بيرم التونسى- وبحق- أهم شاعر عامية مصرية، على الأقل، فى النصف الأول من القرن العشرين، رغم أن أصوله العرقية تعود إلى تونس، التى أخذ منها نسبه «التونسى».
على أى حال يعتبر أوبريت «بساط الريح» نموذجًا لتعريب السينما المصرية أيديولوجيًا وسياسيًا. ومع أن موضوع الأوبريت ليس له محل من الإعراب فى بنية وتطور الفيلم، إلا أنه يتماشى مع المتغيرات الفكرية والسياسية التى طرأت على مصر مع ظاهرة تعريب مصر سياسيًا التى أشرنا إليها من قبل. كما يمكننا أن نضيف إلى ذلك مسألة تعريب سوق الفيلم المصرى.
والملاحظ فى الأوبريت، وربما الجديد أيضًا، هو الجمع فى النزعة العروبية بين المشرق العربى و«المغرب العربى»، أى شمال إفريقيا. وهنا نرصد امتداد فكرة القومية العربية، لتشمل كما مر بنا مصر، خاصةً مع نشأة جامعة الدول العربية، ثم امتداد الفكرة- سينمائيًا- لتشمل بلاد المغرب العربى، التى كانت لا تزال فى معظمها تحت الاحتلال.
يبدأ الأوبريت بالغناء لسوريا ولبنان، وهذا من الطبيعى بمكان سواء لبدايات الفكر القومى العربى، أو حتى لانتماء فريد الأطرش، المنتج والمغنى والملحن، إليهما. كما لا يمكن أن ننكر مدى أولوية وأهمية السوق السورية واللبنانية آنذاك للفيلم المصرى.
يشدو الأوبريت فى بدايته لسوريا ولبنان، ويلاحظ هنا الجمع بينهما دائمًا فى إطار فكرة سوريا الكبرى آنذاك، بالإضافة إلى انتماء فريد الأطرش نفسه إلى فكرة وحدة سوريا ولبنان آنذاك. يشدو الأوبريت:
أنا مشتاق وبرانى الشوق... ودواى فى سوريا وفى لبنان
سوريا ولبنان قامات وقدود
وينتقل الأوبريت بعد ذلك ليحيى الجناح الآخر للعروبة فى المشرق العربى، العراق، حيث يشدو لبغداد، قائلًا:
نروح يا بساط على بغداد... على بغداد على بغداد
بلاد خيرات بلاد أمجاد... بلاد خيرات بلاد أمجاد
ثم يغنى الأوبريت لأحد أهم معالم العراق، وسر من أسرار الحياة فيه وهو نهر دجلة:
يا دجلة أنا عطشان ما أقدر أرتوى من حسنك الفتان
هذا الكسروى
ثم يعرج بنا بساط الريح، أو الأوبريت، إلى شمال إفريقيا، بلاد المغرب العربى:
بساط الريح يا أبوالجناحين... مراكش فين وتونس فين
بلاد الحوت والغلة والزيتون
تونس أيا خضرة، يا حارقة الأكباد
غزلانك البيضا تصعب على الصياد
غزلان فى المرسى ولا فى حلق الواد
ويلاحظ هنا أن بيرم التونسى قد اختص تونس بأكبر قدر من المقاطع الغنائية، بل وذكر بعض أهم المعالم بها مثل «المرسى» و«حلق الواد»، وما زال الأصدقاء التونسيون- من جيلنا- يفخرون بهذه الأغنية، وهذا المقطع على وجه الخصوص.
وكان لا بُد أن تكون نهاية رحلة بساط الريح، فى مصر الشقيقة الكبرى، ومقر جامعة الدول العربية الوليدة آنذاك:
بساط الريح قوام يا جميل أنا مشتاق لوادى النيل
أنا لفّيت كتير وقليل ولقيت البعد عليّا يا مصر طويل
هكذا انعكست الأيديولوجية السياسية الجديدة على السينما المصرية، وهكذا أيضًا رسخت السينما للنزعة العروبية، وكانت خير دعاية لها، حتى فى الأفلام الكوميدية الخفيفة. لكن لا يمكن أن ننكر أيضًا البعد الاقتصادى فى هذا الشأن، حيث كانت سوريا ولبنان والعراق فى المشرق العربى، وتونس والمغرب فى المغرب العربى أهم أسواق الفيلم المصرى آنذاك.