حينما ساند العلم سواعد الأبطال.. هيئة المساحة الجيولوجية فى نصر أكتوبر
تخفى الحروب بين صفحات تاريخها قصصًا لا تُروى إلا بعد أن تنقشع غيوم المعارك ويستقر الصدى، وهنا، خلف ستار من السرية والتخطيط الاستراتيجى، يتكشف دور هيئة المساحة الجيولوجية المصرية فى نصر أكتوبر 1973.
ومن خلال التعاون الوثيق مع الجيولوجيين العسكريين، أسهمت الهيئة بما قدمته من علم ومعرفة فى أن تكون بمثابة عيون تراقب الأرض، تسبر أغوارها، وتكشف عن أسرارها لتصبح حليفًا للجيش المصرى الذى سطر بدمائه واحدة من أعظم صفحات المجد.
هذه الهيئة، الثانية فى القدم على مستوى العالم، لم تكن مجرد مؤسسة علمية بل شريكًا حقيقيًا فى تحقيق النصر.
تأسست هيئة المساحة الجيولوجية المصرية عام 1896، لتكون واحدة من أوائل المؤسسات المتخصصة فى الجيولوجيا على مستوى العالم، مما يعكس مكانة مصر فى هذا المجال، ثم تطورت الهيئة لاحقًا لتصبح الهيئة المصرية العامة للثروة المعدنية، وارتبطت بوزارة البترول والثروة المعدنية، لتصبح محورًا مهمًا فى مجال البحث والتطوير الجيولوجى.
لقد شاركت الهيئة فى تنفيذ مشاريع عديدة خدمت الوطن، وكان من أبرز هذه المشاريع رسم الحدود الدولية بين مصر وتركيا فى عام 1906 بين طابا ورفح، وهو إنجاز له دور أساسى فى استعادة مصر حقوقها فى طابا لاحقًا عبر هيئة التحكيم الدولية، مؤسسًا بذلك لدور الهيئة علميًا واستراتيجيًا ووطنيًا.
ومع اقتراب موعد الحرب قبل السادس من أكتوبر 1973، كان من الضرورى توفير كافة التحضيرات التى تتجاوز جمع العتاد والقوات، بل تتطلب توظيف العلم فى رسم خارطة الطريق للنصر، وظهرت هنا أهمية هيئة المساحة الجيولوجية، حيث أسندت إليها مهمة دراسة تضاريس وجغرافيا سيناء بدقة متناهية، لتحديد كافة مكونات الأرض من تضاريس صخرية ومنحدرات ووهاد.
كان ذلك تحديًا استثنائيًا، فسيناء بوعورتها وتنوع تضاريسها تعتبر من المناطق التى يصعب التنقل فيها دون معرفة دقيقة بكل تفاصيلها، ولذلك كانت خرائط الهيئة الجيولوجية هى الأساس الذى اعتمد عليه القادة العسكريون فى اختيار المواقع الأنسب للتمركز وتحديد المسارات الأكثر أمانًا.
لقد قدمت الهيئة خرائط جيولوجية غاية فى الدقة كشفت ملامح التضاريس وأماكن المنخفضات والأودية، فكانت هذه الخرائط بمثابة مرشد ميدانى، ساهمت فى وضع القوات فى وضع استراتيجى متقدم على أرض المعركة.
كانت دراسة الأرض فى سيناء تتعلق بتحديد مسارات القوات، كما شملت أيضًا تقدير قدرة الحركة للمركبات العسكرية والمشاة، وقامت الهيئة بقياس سرعة تقدم الآليات والمشاة على أنواع مختلفة من الأراضى، كالأراضى الصخرية، الرملية، المنحدرات، والأودية، لتحديد المسارات الأنسب لتحرك القوات.
كما شملت الدراسة تحديد سرعة حركة الجنود والآليات الثقيلة على التضاريس المختلفة، ما جعل الجيش على دراية مسبقة بالمسارات الأكثر كفاءة، مثل هذا التخطيط ساهم فى تحريك القوات بفاعلية، بعيدًا عن المسالك الصعبة التى قد تتسبب فى تعطل الآليات أو تأخير تقدم القوات، مما منح الجيش مرونة وسرعة الحركة فى مناطق كانت تعتبر من أشد المناطق تعقيدًا.
وعند اقتراب موعد المعركة، كانت قناة السويس عقبة طبيعية أمام القوات المصرية، إذ مثل عبورها تحديًا عسكريًا وجيولوجيًا وهندسيًا من نوع خاص، هنا جاء دور هيئة المساحة الجيولوجية لتقدم معلومات حيوية حول طبيعة التربة على ضفتى القناة، مما مكن القادة من اختيار المواقع الأكثر صلابة لإنشاء الجسور المؤقتة التى عبرت عليها القوات والمعدات الثقيلة، دون خوف من انهيار التربة تحت الأوزان الهائلة.
أما خط بارليف، الذى صمم كحصن منيع أمام أى محاولات اختراق، فقد انهارت أسطورته بفضل المعلومات الجيولوجية التى قدمتها الهيئة، كانت تربة الرمال المتحركة تشكل عائقًا أمام التقدم، ولكن الهيئة قدمت بيانات دقيقة حول هذه التربة، مما مكن الجيش من تحديد مواقع الهجوم الأنسب، واختيار الأدوات والمعدات المناسبة للتعامل مع طبيعتها، وبهذه المعلومات، تمكن الجيش المصرى من كسر الحاجز الدفاعى، وإثبات أن العلم يمكنه أن يكون سلاحًا فى حد ذاته.
لم تكن سيناء مجرد أرض معركة بل كانت بمثابة تحدٍ جيولوجى فى حد ذاتها، بجبالها وأوديتها وتضاريسها الوعرة، قدمت هيئة المساحة الجيولوجية خرائط طبوغرافية مفصلة مكنت القادة من فهم طبيعة الأرض وتحديد المسارات التى تسمح للقوات بالتقدم السريع بعيدًا عن المخاطر.
لم يكن التخطيط العسكرى فى أكتوبر معتمدًا على القوة العسكرية فحسب، بل استند بشكل كبير إلى الاستفادة من تضاريس المنطقة بذكاء، بفضل معلومات الهيئة الجيولوجية، تمكن القادة العسكريون فى الجيش المصرى، من استخدام التكوينات الطبيعية كوسيلة دعم، حيث استُخدمت الجبال كحواجز دفاعية طبيعية وتم استغلال الأودية كمسارات خفية لنقل القوات.
كما أن الصخور والتشكيلات الجيولوجية تحولت إلى مواقع دفاعية طبيعية للقوات المصرية، التى استفادت من هذه المواقع بشكل يجعلها فى مأمن من أى هجمات، كما أن بعض التضاريس كانت مراكز انطلاق هجومية للقوات، مما عزز من إمكانيات الدفاع والهجوم، مؤكدًا كيف أن المعرفة العلمية الدقيقة يمكن أن تكون قوة استراتيجية بحد ذاتها.
لم تكن مهمة الهيئة منعزلة عن باقى الجهود العسكرية، بل تمت بالتنسيق مع الجيولوجيين العسكريين الذين عملوا كحلقة وصل بين المعلومات العلمية والميدان، وساعد هؤلاء الخبراء فى تطبيق المعلومات الجيولوجية عمليًا على أرض المعركة، مما مكن القوات من استخدام البيانات الجيولوجية بكفاءة عالية وفاعلية فى اتخاذ القرارات على الجبهة.
استمر دور هيئة المساحة الجيولوجية فى مرحلة ما بعد الحرب، حيث قامت بإجراء دراسات حول المناطق المتضررة التى تتطلب تطهيرًا من الألغام وإعادة التأهيل، وقد قدمت الهيئة خططًا لإعادة بناء وتطوير المناطق التى دمرتها المعركة، مما سمح ببدء مرحلة جديدة من التنمية فى سيناء، ليكون هذا الدور العلمى والتنموى جزءًا من الإرث الذى تتركه الهيئة للأجيال القادمة.
إن دور هيئة المساحة الجيولوجية المصرية فى نصر أكتوبر 1973 يظل شاهدًا على العلاقة الوطيدة بين العلم والدفاع، بفضل المعلومات الجيولوجية التى وفرتها الهيئة، أضيئت للقوات المصرية دروب النصر، واستطاع الجيش المصرى، بدعم من خبراء الجيولوجيا، أن يحقق أحد أعظم الانتصارات العسكرية.
ما قدمته هيئة المساحة الجيولوجية المصرية فى هذه الحرب يؤكد أن العلم يمكنه أن يكون سلاحًا بحد ذاته، وأن المعرفة الدقيقة بالتضاريس والجغرافيا تسهم فى تحقيق التفوق فى أرض المعركة.
لقد كانت الهيئة شريكًا استثنائيًا للجيش، وكتبت فى تاريخها صفحات من الفخر، لتظل رمزًا للأثر الذى يمكن أن تصنعه المعرفة العلمية عندما تتحد مع إرادة النصر.