مهرجان الموسيقى بين الهوى والهوية
أيام قليلة تفصلنا عن بداية دورة جديدة لمهرجان الموسيقى العربية.. لا أعرف العدد.. ولا يهمنى أن أعرف بعد أن تشابهت علينا المهرجانات، ولم يعد لبعضها أو لمعظمها أى خصوصية.. كلها مهرجانات.. كله زى بعضه.
مهرجان الموسيقى العربية.. هو الأقدم.. فى المنطقة.. وهذا هو اسمه.. ولا أعرف ما هى علاقتنا نحن والموسيقى العربية؟.. هوه إحنا.. أقصد العرب يعنى عندنا موسيقى؟
لقد طاردنى هذا السؤال منذ فترة.. وانتظرت أن يقوم أحد الأكاديميين بطرحه فى أى مؤتمر.. أو عمل بحثى جاد.. فضلًا عن الإجابة عنه ولم يحدث.. حاولت أن أبادر بذلك مرات عدة وكان هناك ما يمنع.. من أول حرج السؤال فى وقت يتمزق فيه العرب.. ويتيهون.. ويتخطفهم الأغراب من كل صوب.. وفى كل المجالات.. حتى تأجل المؤتمر الأخير الذى تزامن مع بدايات عملية طوفان الأقصى.. ثم غادر الصديق خالد داغر موقعه فى الأوبرا ومن بعده هانى فرحات، رئيس المهرجان.
لماذا إذن أطرح السؤال الآن؟ وأرجو أن يتسع صدر العزيز خالد داغر.. فالأمر لا يتعلق بالمهرجان فى دورته الحالية.. الأمر أقدم وأبعد من ذلك.. وإن كان غضب الناس من أسعار تذاكر هذا العام وإحساسهم بتحوله إلى سبوبة أمرًا يدفع فى اتجاه السؤال ذاته.. جدوى إقامة كل هذه المهرجانات من الأصل دون خصوصية لأحدها.. فمهرجان القلعة لا فرق بينه وبين مهرجان الأوبرا سوى فى أسعار التذاكر، ولا فرق بينهما وبين أى مهرجان فى الإسكندرية أو دمنهور سوى فى موقع إقامة الحفلات.. فارق جغرافى ليس إلا.
أعود للسؤال الأهم: هل هناك بالفعل ما يسمى بالموسيقى العربية؟.. بالطبع لا.. نحن مراوغون وكاذبون ليس أكثر.. ليست لدينا موسيقى عربية.. وإن وجدت فليدلنى أحدكم عليها.. إنها أكذوبة مثلها مثل السوق العربية المشتركة ليس أكثر.. نحن لدينا غناء بلهجات عربية متعددة تصاحبه موسيقى عثمانلى من أيام الاحتلال.. ليس أكثر.. أو كلمات بلهجات عربية متنافرة على موسيقى غربية منتحلة حينًا ومسروقة فى أغلب الأحيان.. هذا باستثناء محاولات فردية فى أزمنة متباعدة لعدد من العباقرة.. الشيخ محمد المسلوب.. محمد عثمان.. القصبجى.. سيد درويش.. الشريف.. محمد فوزى.. وبليغ حمدى.. ومن أجيال تالية محمد نوح.. وفيما عدا ذلك نحن غارقون فى الموشحات الأندلسية والأمان يا لا للى التركى.. فأين هى بالله عليكم موسيقى العرب حتى نقيم لها مهرجانًا سنويًا؟
هناك موسيقى الشمال الإفريقى بتجلياتها المتوسطية.. وفى السودان موسيقاه الإفريقية.. وفى جنوب مصر كذلك.. وفى اليمن والعراق موسيقى تأثرت بعوامل مختلفة.. وفى مصر هناك امتداد للموسيقى المصرية القديمة البديعة، التى أبهرت الكل شرقًا وغربًا، حين تم استدعاؤها فى حفل نقل المومياوات.. فأين هى موسيقى العرب؟
هل المهرجانات موسيقى عربية؟.. هل الزار موسيقى عربية؟.. هل الراب والراى موسيقى عربية؟.. أين هو الأصل وما الظواهر العارضة والدخيلة؟.. كم كنت أتمنى أن تخصص اللجنة العلمية برنامجها هذا العام لطرح هذه الأسئلة والإجابه عنها.. سؤال الهوية بات أمرًا ملحًا الآن وليس غدًا.. بعد أن تحول الأمر برمته إلى شو استعراضى سخيف.
الأبحاث التى يناقشها المهرجان مهمة بالطبع.. لكنها لا تتجاوز أبحاث الترقية والحصول على درجات علمية من عام إلى آخر.. نفس ما نفعله فى أروقة الأكاديميات والجامعات.. ليس أكثر.. حتى رسخ فى الذهن أنه لدينا بالفعل موسيقى للعرب.
الإجابة.. أو محاولة الإجابة.. ليس عبثًا.. والسؤال ليس كرسيًا فى كلوب الفرح المنصوب بلا عرس.. إيه الفائدة من هذه المهرجانات.. سوى الترفيه؟.. هل تحول العلم إلى مجرد ساحة هوى يتنافس فيها.. فيما صار العلم مكررًا ومعتادًا مثل نجوم المهرجان بالضبط؟.. كل هؤلاء النجوم أصدقاء أعزاء ووجودهم فى المحافل ضرورة.. لكن أى محافل بالضبط.
لقد تماهت المهرجانات.. حتى صارت حفلًا واحدًا من فقرات متتالية توزع حسب أشهر السنة الاثنى عشر.. صارت عملًا معتادًا لتشغيل مجموعة من الموظفين ليس أكثر.. لو لم يعملوا ما اعتادوا عمله ما حصلوا على حوافزهم المعتادة.
نحن فى حاجة عاجلة.. إلى نظرة أخرى لما نفعل فى واقعنا الثقافى.. كل هذه الفعاليات المعتادة والمكررة تحتاج إلى وقفة.. جادة.. فاعلة.. واستمرار إقامة الفعاليات بنفس الشكل والطريقة إهدار لقيمة واسم وتاريخ القاهرة.. بالمناسبة يعنى إيه مهرجان موسيقى عربية؟.. وسأتجاوز مؤقتًا عن فكرة عدم وجودها من الأصل.. يقام فى دار الأوبرا.. أين تعزف الأوبرا إذن؟ هل نذهب بها إلى استاد القاهرة مثلًا؟
لقد ضاعت منا أعمارنا فيما لا جدوى منه.. ولا هدف.. لأننا ببساطة استسلمنا لما هو معتاد.. لما تعودنا أن تمارسه أرجلنا وأيادينا دون تفكير، فقد بات التساؤل أمرًا محرمًا فى بعض الحالات.. وأعتقد أننا فى حاجة الآن وليس غدًا لمراجعة ما تعودناه.