السينما المصرية والعروبة «2-3»
رأينا فى المقال السابق تصاعُد ظاهرة تعريب مصر سياسيًا منذ نهاية الثلاثينيات من القرن العشرين، خاصةً مع ذروة الأحداث فى فلسطين، وصولًا إلى حرب ١٩٤٨، هذا فضلًا عن نزوع القصر الملكى إلى الأيديولوجية العربية، من أجل تتويجه «ملك العرب»، وما لكل ذلك من انعكاسات على مسيرة السينما المصرية.
نستطيع أن نرصد ذلك من خلال محاضر غرفة صناعة السينما فى اتحاد الصناعات المصرية، حيث نشر الكاتب الكبير سمير فريد بعضها؛ إذ ناقش أعضاء الغرفة فى إحدى جلساتها الشائعات التى انطلقت ضد الفنانة الكبيرة ليلى مراد فى أعقاب حرب ١٩٤٨، بأنها لا تزال «يهودية»، وأنها تناصر جيش الاحتلال الإسرائيلى، وبالقطع كانت هذه الشائعات مغرضة، فبصرف النظر عن إسلام ليلى مراد، فإن الوثائق تثبت تبرع ليلى مراد بالأموال لدعم الجيش المصرى فى حرب ٤٨.
على أى حال فإن ما يهمنا هنا هو أثر هذه الشائعات المغرضة على توزيع أفلام ليلى مراد، خاصةً فى المشرق العربى؛ إذ ناقشت غرفة صناعة السينما هذا الأمر، لا سيما بعد منع أفلام ليلى مراد فى كلٍ من سوريا ولبنان، وأصدرت الغرفة قرارها «بإعداد بيان مفصل حول هذا الموضوع للنظر فيما يمكن عمله فى هذا الصدد».
وبالإضافة إلى المشرق العربى، كانت هناك سوق أخرى لا تقل أهمية، هى سوق بلاد المغرب العربى، التى كانت تعرف آنذاك بشمال إفريقيا؛ إذ ناقشت غرفة صناعة السينما المصرية مسألة مهمة وخطيرة بالنسبة لسوق الفيلم المصرى وتوزيعه فى بلاد المغرب العربى، التى ما زالت تحت الاحتلال الفرنسى، حيث أشارت الغرفة إلى عزم السلطات الفرنسية على فرض ضريبة إضافية على الوارد من الأفلام الأجنبية- ومنها الفيلم المصرى- إلى بلادها وتوابعها تبلغ ٤٠٠ فرنك فرنسى على المتر الواحد. وأشار محضر اجتماع غرفة الصناعة المصرية إلى ضرورة التحرك لدى المسئولين «لحماية سوق الفيلم المصرى فى شمال إفريقيا»، الخاضع للاحتلال الفرنسى.
تجمعت كل هذه العوامل السياسية والفكرية والتجارية لتحدث أثرها فى اتجاهات السينما المصرية آنذاك، ومن الأربعينيات فصاعدًا سنشاهد انعكاس «تعريب مصر سياسيًا» على شاشة السينما المصرية، ويعتبر فيلم «غرام وانتقام» إنتاج عام ١٩٤٤ من أوائل الأفلام التى عبرت عن هذا الاتجاه الجديد، وبدايةً لا بُد من الأخذ فى الاعتبار أن هذا الفيلم من إنتاج ستوديو مصر، أى بنك مصر، أحد رموز الاستقلال المصرى، والمعبر عن الوطنية الاقتصادية، كما أن السيناريو والإخراج والبطولة السينمائية للفنان الكبير يوسف وهبى، المقرب من الملك الشاب آنذاك فاروق الأول، والذى سيمنحه رتبة البكوية بعد ذلك، وكأن يوسف وهبى، مع احترامنا لفنه ودوره، إحدى أذرع الدعاية للقصر فى تلك الفترة، كل هذا لا يقلل من أهمية ومكانة الفيلم؛ إذ يدخل الفيلم ضمن قائمة أهم مائة فيلم فى السينما المصرية.
ما يهمنا هنا هو الظهور الواضح للنزعة العروبية فى هذا الفيلم، بل وطبيعة الحوار المباشر فى هذا الشأن، ويمكننا أن نلاحظ ذلك بوضوح فى المقطع السابق على الأوبريت الشهير «مطالع السعد»؛ إذ تطلب أسمهان من يوسف وهبى إعداد أوبريت عن أمجاد مصر الفرعونية، لكن يوسف وهبى يرد بثقة، أن هذا الأمر جيد، وقد سبق عمله، وسبقنا فيه من قبل الأجانب، وأنه من الضرورى الآن الحديث عن «مصر العربية» وعن بناة مصر الحديثة، أى الأسرة العلوية، الأسرة الحاكمة، أسرة محمد على. هنا نرصد، وبشكل شديد المباشرة، ظهور مصطلح «مصر العربية» على شاشة السينما المصرية، وربط هذا المصطلح بتاريخ الأسرة العلوية، ولا بُد من ربط ذلك فى حقيقة الأمر بالتحولات السياسية والفكرية والتجارية التى أشرنا إليها من قبل، وكذلك الأخذ فى الاعتبار محاولات القصر للترويج لصورة جديدة للملك فاروق على أنه «ملك العرب».
ولا يقف أمر الدعاية للنزعة العروبية، و«مصر العربية» فى فيلم غرام وانتقام عند هذا المقطع، لكن يتصاعد هذا الأمر مع الانتقال الافتراضى لأبطال الفيلم إلى لبنان، وظهور الممثل الكبير بشارة واكيم ولعبه دور اللبنانى الزحلاوى؛ إذ يُنشِد بشارة شعرًا فى مديح العروبة، ووحدة العرب:
يا بنت مصر ولبنان
تحيا الشهامة المصرية
شامى.. فلسطينى وعراقى وابن النيل
وهلاَّ بالفكر الراقى حتصيروا وحدة عربية
وهنا لا نملك إلا أن نربط ذلك بالتطور السياسى الكبير الذى كانت تشهده المنطقة آنذاك؛ حيث عقدت الاجتماعات واللجان التحضيرية للتمهيد لخروج الجامعة العربية إلى حيز الوجود فى العام التالى، أى فى عام ١٩٤٥. حيث ستصبح مصر هى دولة المقر بالنسبة للجامعة العربية، لتبدأ مصر صفحة جديدة مع «القومية العربية»، هذا الاتجاه الذى سيأخذ شكلًا آخر مع ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢.