رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أيام بليغ حمدى

لا أعترف بالانتظار حتى يوم بعينه لأحتفى ببليغ حمدى.. وأكره تمامًا فكرة الاحتفاء به فقط فى ذكرى ميلاده أو وفاته.. أعتقد أنه لا يحتاج إلى ذلك.. هو فى كل ساعة معنا يحتفى بنا.. يغنى لنا.. يحزن معنا ويفرح.. يتألم ويرقص.. سنوات تتعدى الأربعين من عمرى وهو يفعل ذلك. ورغم هذه المشاعر أشارك فى أى احتفالية تقام من أجل موسيقى ذلك البليغ.

سيرة بليغ حمدى هى سيرة الحبايب الذين رحلوا دون وداع.. دون إخبارنا عن موعد قريب.. ريحة طفولتنا ونزقنا.. خطاباتنا الأولى.. ورداتنا الذابلات بين أوراق الكتب.. بليغ موسيقاه صورتى التى أحب ولا أمل من استحضارها فى خريف فاجأنى عمدًا منذ سنوات ليخبرنى بأن.. القمر مسافر.. والسهر مسافر.. والحزن أيضًا.. موسيقى بليغ هى ديارنا التى فارقها أحبتنا وأغلقوا أبوابها على حنين لا ينفد.. فكيف لا نتشعلق فى أهداب إيقاعاته نرقص شوقًا؟! 

هذا الأسبوع استضافت دار الأوبرا المصرية صناع الفيلم الوثائقى «الطير المسافر».. قاعة المسرح امتلأت عن آخرها.. لم يكن هناك مطرح حتى للوقوف فى الطرقات.. كل هؤلاء جاءوا من أجل بليغ.. فنانين ونقاد وإعلاميين.. وجمهور يحب بليغ وموسيقاه.. لثلاث ساعات لم يغادروا أماكنهم.. طيلة مدة عرض الفيلم الذى أحسبه رسالة حب طيب لبليغ من فايزة هنداوى وحسين بكر وكل من شارك فيه مبدعًا وضيفًا.. وطيلة الندوة التى تلت عرض الفيلم.. عمل طيب يشبه طيبة بليغ وبه جهد كبير واضح.. عيبه الوحيد فى ظنى أن بليغ متعدد ومختلف ومربك.. شخصيته ليست أحادية على الإطلاق وغزارة إنتاجه أزعجت من يحاول حصرها.. ساعة واحدة لا تكفى لبليغ.. وهذا فى ظنى ما شوشر على صناع العمل الذين حاولوا تقديم كل شىء عنه فى عمل واحد وهذا مستحيل.. أعجبنى مونتاج الفيلم وحرفية المعد الموسيقى.. وبساطته.. أعتقد أننا فى حاجة ماسة لأعمال أخرى عن بليغ من زوايا مختلفة.. هو يستحق.. ونحن نحتاج.

فى اليوم التالى.. كان موعد الحفل الثالث للمطرب الكبير على الحجار من مشروعه «١٠٠ سنة» غنا.. وكان مخصصًا لبليغ.. وقد انتقى الحجار عددًا طيبًا من موسيقى الرجل الذى قدمه فى بداية مشواره.. وقد أجاد الحجار كالعادة وبدا متألقًا وهو يبادل الجمهور الذى ملأ مسرح الأوبرا الكبير الغناء وبعض أغنياته كانت مفاجأة لكثيرين إذ لم يكتف الحجار بألحان بليغ له.. أو لحليم.. بل غنى لوديع الصافى أيضًا.. وكان من الجميل أن يحتفى الحجار بضيوفه فى الحفل.. محمد محيى بليغى الهوى مطربًا وملحنًا ليسعد جمهور الحفل بأداء واحدة من أجمل شعبيات عفاف راضى.. جرحتنى عيونه السودة وإحدى أغنيات الحجار نفسه.. قالت.. وكذلك فعل وائل الفشنى، الذى قدم إحدى تجليات بليغ الصوفية النقشبندى.. وعبدالفتاح مصطفى.. إلى جانب صوتين جميلين من أبناء الأوبرا.. الجميل أن أغنيات الحفل أعاد توزيعها بشكل بديع موزعون جدد منهم أحمد شحتوت.. وهى فرصة طيبة لجيل جديد من الموزعين صاغوا خيالًا جديدًا ومختلفًا. 

لا أكتب نقدًا للفيلم.. والحفل بالتأكيد.. فقط هى انطباعات محب لموسيقى مصرى.. أرى أنه صاحب التجربة الأهم فى إعادة موسيقانا إلى مصريتها بعد محاولتى سيد درويش ومحمود الشريف.. وإشارات القصبجى ومحمد فوزى.. موسيقى نحتاج لسنوات لندرك كم أهملناه وظلمناه بعدم قدرتنا على تفسير منجزه المدهش. 

ربما حالة الوهج هذه.. سواء فى مصر أو فى العالم العربى.. تكون بداية حقيقية للقبض على هويتنا التى يحاول الكثيرون وعبر أزمنة متتالية تمزيقها.. ومحوها إن استطاعوا.