عن ظاهرة المطرب الملثم
فى بدايات القرن الماضى.. أو ربما قبل ذلك بقليل.. وعندما دخل المسرح إلى حياتنا.. كان المشخصاتية من الرجال يقومون بأدوار النساء.. ذلك أنه لم يكن من الوارد فى ذلك الوقت أن تعمل النساء فى تلك المهنة.. هكذا تخبرنا روايات الكتب.. وهو أمر محير بالنسبة لى.. فعمل الجوارى وغيرهن بالرقص والغناء أسبق من ذلك بكثير، وكثيرًا ما حفلت به قصور الخلفاء وغيرهم من الأعيان والسادة.. المهم هذا ليس موضوعنا.. لكن ما أعنيه أن المصريين تجاوزوا فكرة أن من يؤدى دور الشخصية النسوية رجل.. تعاطفوا معها ليصدقوا الرواية ويتفاعلوا معها.. قبلوا اللعبة بتفاصيلها وقواعدها..
الآن وبعد كل تلك السنوات وما جرى فيها.. جاء إلى المسرح من يرتدى ملابس النساء.. وحلقانهن.. وعلى الأجساد تاتوهاتهن وفى الرقاب سلاسل من سلاسلهن.. ولم يبلع أغلبنا الفكرة.. ولم يتجاوز عن سخفها..
وباسم الموضة ظهر مؤخرًا مطرب.. يدعى «توليت».. وبعيدًا عن الاسم وما يعنيه.. لفت نظرى مثل غيرى شغف الكثيرين بالفكرة.. وبما يفعل ذلك الرجل الملثم.. شغل الناس بمن يكون.. ولم يشغلهم ماذا يغنى؟.. شغلهم لماذا هو يختبئ خلف اللثام؟.. ولم يشغلهم ماذا يريد أن يفعل بلثامه؟.. وقال أعقلهم: أهى لعبة نتسلى بيها، ويومين وتخلص..
ظاهرة الملثم فى حد ذاتها موجودة بكثرة فى تاريخ السير الشعبية.. وتعرضت الدراما المصرية للبعض منها.. ولها أسباب منطقية كانت سببًا فى التفاف الناس حولها وحول صاحبها.. كهروب الملثم من جنود الاحتلال مثلًا.. أو السلطان.. أو أى تكوين مُعادٍ.. حدث ذلك مع على الزئبق.. ومع أحمد بن عروس.. وفى أحوال أخرى مع السيد البدوى.. فى الأولى التخفى بغرض الهروب.. والحيلة.. وفى سيرة السيد البدوى.. كان ملثمًا ليدارى عيبًا قيل إنه مرض جلدى.. لكن الإخفاء أسهم فى صنع أسطورته.. وأصبح لقبه الملثم.. مثل السطوحى لبقائه لسنوات على السطوح.. فهل كان تخفى «توليت» محاولة منه لصنع أسطورة.. حتى وإن كانت أسطورة كاذبة؟
هل فعلها لينشغل الناس بلثامه عن سوء ما يغنى؟
أيًا كانت الأسباب التى دفعت المغنى المجهول لذلك الشكل المسرحى.. الذى وافق عليه المتعهدون وشجعوه.. لماذا يقبل الناس على مجهول فى زمن الكشف والفضح لكل ما هو مستور..؟
الناس ومنذ زمن يحبون فكرة الاكتشاف.. ولذلك نجحت فكرة التسريبات والسيديهات.. وسرى جدًا وغيرها من العناوين المعتادة فى اقتياد عقول الناس وأبصارهم.. نحن عبيد ما نجهل.. نحب ما هو خفى.. وندعو ليل نهار أن ينجينا الله من الغفلة فى ذات الوقت..
على كل حال ربما ينطبق ذلك على أبناء جيلى.. لكن الأجيال الجديدة لا يشغلها ذلك العبث من قريب أو بعيد.. ربما تتسلى به لأيام.. لكن سرعان ما تتجاوزه وتتخطاه للتسلية بفيلم جديد.. موضة جديدة.. افتكاسة جديدة.. الجديد هو ما يشغلهم وليس نوعه.. ولكن فى الوقت نفسه هم مشغولون بكل ما هو جاد إذا شعروا بصدقه..
الشباب هؤلاء لمن يتابع صفحاتهم كانوا الأكثر اهتمامًا بملثم غزة.. ليس لأنه ملثم.. ولكن لما يقوله.. صار أبوعبيدة رمزًا لشهور عند أبناء ذلك الجيل.. وحدثًا مهمًا.. يتابعونه بشغف.. وهم الآن الأكثر ولعًا وشغفًا بما يحدث فى الصومال..
صورة الجندى المصرى المقاتل.. الواضح.. هى الصورة الأجمل فى عيون أبناء هذا الجيل الذى نظلمه كثيرًا عندما نقول إنه صانع ظواهر المطرب المخنث وصاحب الحلق وأخيرًا توليت..