رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الكنز فى جبال أسيوط

سافرت إلى الصعيد فى مهمة عمل ليومين.. فطاردتنى حواديت الكنز.. وفى سوهاج منذ أسابيع كنت فى زيارة عائلية ليومين أيضًا طاردنى نفس الحوار.. ومنذ سنوات زادت على الأربعين وأنا أسمع نفس الحوارات.. هذه الأرض عامرة باللقايا.. سحر الصعيد فى أسطورته دومًا.. هذه الأسطورة تداعب أحلام الملايين.. بعضهم أنفق كل أمواله فى الجبل بحثًا عنه.. وبعضهم مات وهو يحفر أنفاقًا فى الليل.. وبعضهم زاد الطين بلة بأن تورط فى حواديت جلب المشايخ من آخر بلاد الدنيا بحثًا عن المساخيط. 

فوق قمة الجبل.. تذكرت كل ما سمعت وابتسمت للمرافقين من علماء الصعيد.. هذا هو الكنز الحقيقى يحتضننا جميعًا لكننا لا نلتفت إليه ونذهب خلف السراب.. مناطقنا الأثرية فى معظم جنوب مصر كنز حقيقى وغير موجود على خريطة السياحة أو الثقافة أو التعليم.. أطفالنا لا يعرفون شيئًا عن حضارة أجدادهم.. بعضهم يعرف بعض المعلومات المتواترة عن آثار أبوسنبل والأقصر وأسوان.. وفقط. 

سوهاج وأسيوط تحديدًا كنوز أثرية لم تحظ بالاهتمام الذى يليق بها.. على سبيل المثال ما رأيته من حضارة تاسا والبدارى.. شديد الأهمية.. هذه المنطقة فى أسيوط ظهرت بها واحدة من أقدم حضارات الدنيا.. حوالى ٤٥٠٠ سنة قبل الميلاد.. ورغم أن الكشف عن تفاصيل تلك الحضارة حدث عام ١٩٢٢.. أى ما يزيد على مائة عام.. فإن زوار تلك المنطقة يقتصرون على الباحثين من بلدان بعينها.. حتى إن أحدًا لا يعتبر أسيوط من بين المناطق السياحية المهمة.. وبدرجة أقل آثار سوهاج، سواء فى أخميم أو أبيدوس. 

ما لفت نظرى هو أن الحكومة أنجزت عملًا مدهشًا فى المحاور والطرق الطويلة، سواء شرق النيل أو غربها.. لكن فى الوقت نفسه أهملت المحليات الطرق الصغرى التى تؤدى إلى تلك المناطق الأثرية.. ما يجعل الوصول إليها أمرًا صعبًا.. عدد العاملين هناك أيضًا قليل جدًا.. وبعض الاهتمام بوسائل الراحة حول تلك المناطق، سواء للعاملين فيها أو للزائرين، أمر فى غاية الأهمية. 

هذه المناطق غنية جدًا فى البيئة المحيطة.. شوارع كثيفة الأشجار من الجانبين.. أشجار المانجو المثيرة.. النيل العظيم يمرح تحتها فـ الطريق إلى الشمال.. ولكن لا توجد فنادق قريبة ولا مطاعم.. هذه الكنوز من الممكن أن تضيف بتاريخها الساحر وبأساطيرها الشعبية بعدًا جديدًا للسياحة الثقافية، إن جازت التسمية. 

علماء مصر الأفاضل فى الجنوب من الباحثين أو دارسى اللغة المصرية القديمة غاية فى الوعى والثقافة والفهم.. كل من التقيتهم يتحدثون بفخر عن بلادهم وعما تحتويه من معالم أثرية وإنسانية.. لكنهم ينتظرون من المدينة أن تتذكرهم.. ألا تبخل عليهم. 

أخبرنى أحد الأصدقاء.. أن كنوزنا الحقيقية من المعالم الأثرية مثل منطقة الهمامية فى أسيوط ونقادة فى قنا.. ليست وحدها التى تعانى من العزلة.. بعض المدن أيضًا تعانى من فراغ الصحراء.. فى سوهاج، على سبيل المثال، مدينة كاملة المرافق اسمها أخميم الجديدة بالقرب من منطقتين أثريتين غاية فى الأهمية.. الدبابات وأخميم.. هذه المدينة بنيت منذ سنوات.. وتم تخصيص شققها للمواطنين.. لكن ما فيهاش صريخ ابن يومين.. فى حين أن مدينة سوهاج الجديدة عامرة تمامًا.. بسبب وجود الجامعة والمطار.. ملخص الأمر أن كنوزنا تحتاج إلى من يوانسها علشان الرجل تدب فيها. 

سألنى صديق رافقنى لساعات فى تلك الزيارة أين هم رجال أعمال الصعيد.. وأثرياء الجنوب الذين يعملون فى القاهرة والإسكندرية ودول الخليج وأوروبا أيضًا من هذه المدن.. لماذا لا يعملون هنا.. مع أن المكاسب مضمونة وفرص الاستثمار الآمن متوافرة؟.. الدولة الآن سهلت الكثير من الإجراءات.. ومنحت الكثيرين حوافز لا حدود لها.. فلماذا يفرون بعيدًا؟.. قلت ربما لا يعرفون. 

المعرفة ليست بابًا من أبواب التسلية أو الترفيه.. هى بوابة الاقتصاد أيضًا.. كيف يقبل صاحب رأس مال على إقامة مشروع فى مكان هو لا يعرفه.. ولا يعرف كنوزه؟ 

لقد قدمت السينما.. والدراما.. للأسف فى أزمنة سابقة الصعيد بشكل كاريكاتورى.. لا علاقة له بما يملكه من خيرات وكنوز وقيم.. فصدق الكثيرون بمن فيهم هؤلاء المستثمرون أن الصعيد مجرد بوز ملوى لأناس يرطنون كلامًا غير مفهوم.. ويمسكون بالأسلحة على طول الخط.. ويقتلون بعضهم البعض ثلاث مرات فى اليوم.. وأبطالهم لا يعملون إلا فى تجارة الآثار.. فى المساخيط فانسخطنا جميعًا.. وصدقنا هذه المسلسلات التافهة.