سيحلها البحث العلمى
ينقسم العالم إلى مجموعتين رئيسيتين من حيث مستوى التقدم العلمى والتطور التقنى والنمو الاقتصادى، هما الدول المتقدمة فى هذا المجال وتعرف بدول الشمال، والدول النامية والتى لم تستطع مواكبة هذا التقدم وتعرف بدول الجنوب، ويُمثل الوطن العربى والإسلامى جزءًا كبيرًا من دول الجنوب، ولكن هناك تباينًا كبيرًا بين هذه الدول فيما بينها من حيث مستوى التنمية والتقدم العلمى والتقنى.
تنتهج الدول المتقدمة نهجًا واضحًا فى تعزيز قدرات البحث العلمى والتطوير التقنى، وتدعيم بنيته وتكثيف أنشطته، من خلال إنشائها مراكز البحث والتطوير وتعزيز قدراتها بتغذيتها باستمرار بالكوادر البشرية المدربة، وتهيئة الباحثين للقيام بأنشطة البحث والتطوير فى جو من الحرية والاستقلالية، ووضوح السياسات، واحترام حقوق الملكية الفكرية، وتيسير سبل تطبيق نتائج البحوث، مع الحصول على مزايا مادية ومعنوية مجزية تُشجع على المزيد من الابتكار والإبداع.
تحاول الدول النامية أن تُحقق نجاحات فى مجال البحث العلمى والتطوير التقنى لقهر التخلف الذى تعانيه، ولتقريب الفجوة بينها وبين الدول المتقدمة، والتى تزداد اتساعًا نتيجة لضعف مخرجات البحث والتطوير فى الدول النامية وزيادة تقدمه بخطى أسرع فى الدول المتقدمة.
لم تألُ بعض الدول النامية جهدًا فى محاولة دفع أنشطة البحث والتطوير بإرادة جادة تمثلت فى بعض دول آسيا التى أثبتت منافستها الرائدة على طريق التقدم الذى لفت انتباه العالم وأثار حفيظة العالم الغربى الذى ما لبث أن وضع العقبات أمام هذا التقدم الذى أضحى يتخطى معوقات العالم الغربى الموجهة ضده بمنهجيات متجددة، ووسائل فعالة تواكب التطورات وتتخطى التحديات.
يلعب البحث والتطوير دورًا حيويًا فى تقدم ورفاهية المجتمعات، والذى بدوره يعتبر مؤشرًا لقياس نمو الدول، ومعيارًا لتقدمها وكفاءة مؤسساتها. حيث قُدر أن 90% من الزيادة فى معدل النمو الاقتصادى فى الدول المتقدمة يرجع إلى التقدم العلمى والتقنى، كما أن 50% من الزيادة فى حصة الفرد من الدخل القومى يعود لهذا السبب.
تُحقق أنشطة البحث العلمى والتطوير التقنى فى الدول المتقدمة عائدات عالية، حيث يُقدر أن كل مليون دولار تُنفق على البحث والتطوير فى الدول المتقدمة تحقق 100 مليون دولار، بالإضافة إلى العوائد غير المباشرة التى تستمر لفترات طويلة ويصعب تقديرها، ومن هذه الدول الولايات المتحدة الأمريكية واليابان وسنغافورة وألمانيا وكندا وأستراليا وبريطانيا وفرنسا والصين وكوريا، ويرجع ذلك إلى أن معظم نتائج البحث العلمى فى مختلف المجالات تجد طريقها للتسويق مباشرة، بإلإضافة إلى أن عمليات البحث العلمى تتم بالاتفاق مع المستفيدين منه مباشرة، وبالتالى تتحقق الكفاءة فى استخدام وتطبيق نتائج البحث العلمى. كما أن نسبة كبيرة من نتائج البحث العلمى تتمثل فى العلوم التقنية المتقدمة والدقيقة، إضافة إلى وضوح الرؤية فى أولويات البحث العلمى فى الدول المتقدمة، حيث يتم البحث العلمى بأسلوب التكاليف والعائد، وبالتالى يستمر تشجيع المبتكرين والمخترعين والموهوبين، ما يؤدى إلى ارتفاع نسبة الابتكارات والاختراعات العلمية.
يُعد عائد البحث العلمى فى الدول النامية منخفضًا جدًا، حيث إن كل مليون دولار تنفق على البحث العلمى تحقق 10 ملايين دولار، بالإضافة إلى العوائد غير المباشرة التى يصعب تقديرها ومن هذه الدول تركيا وماليزيا والهند. وفى غالبية الدول النامية ينخفض معدل العائد إلى مستويات متدنية، حيث إن كل مليون دولار ينفق على البحث العلمى يحقق 5 ملايين دولار.
يرجع انخفاض عائد البحث العلمى فى الدول النامية إلى أن القدرة محدودة على الاستفادة من نتائج البحث العلمى مع ضعف القدرة على تسويق نتائجه. كما أن معظم البحوث التى تُجرى فى الدول النامية ما زالت ترتكز على العلوم الأساسية ونسبة بسيطة جدًا على العلوم التقنية المتقدمة. ومعظم البحوث لا ترتبط مباشرة بحاجات المستفيدين، بالإضافة إلى عدم وضوح الرؤية فى أولويات البحث العلمى، وعدم التنسيق بين الجهات البحثية فى الدولة الواحدة ما يؤدى إلى تكرار إجراء نفس البحوث فى أماكن مختلفة داخل الدولة.
ناهيك عن عدم توفر نظام معلومات وبيانات دقيق عن نتائج البحث العلمى، وعدم تشجيع المبتكرين والمخترعين وترجمة مواهبهم إلى براءات اختراع يتم تبنيها فى شكل منتجات وصناعات. بالرغم من توفر القوى البشرية فى معظم دول العالم النامى إلا أن ضعف الإمكانات الفنية والتجهيزات التقنية يحد من طموح الباحثين فى تنفيذ بحث علمى متقدم يخرج من الحلقة التقليدية، والذى بدوره أدى إلى هجرة الكفاءات البحثية إلى الدول التى تستثمر فى البحث العلمى، وبالتالى استمرت ريادتها وصمد تقدمها.
استحوذت الدول المتقدمة على النصيب الأكبر من الكفاءات البحثية حتى من الدول النامية التى هاجر المبتكرون والمبدعون منها إلى العالم المتقدم الذى احتضنهم، وهيأ لهم سبل العيش الكريم ومكّن لهم مقومات البحث العلمى من خلال مراكز البحث والتطوير المجهزة بكامل تجهيزات وتقنيات البحث العلمى المتقدم، ومكنتهم من قيادة مؤسسات التعليم العالى، ومراكز البحث العلمى المتقدم.
يُعد تبنى نهج العلم والمعرفة جوهر الاختلاف بين الأمم والشعوب، فالدول المتقدمة لا تخطو خطوة فى أى مجال إلا بعد دراسة مستفيضة ومتأنية، ما جعلها مستقرة اجتماعيًا واقتصاديًا، أو بمعنى آخر أن البحث العلمى يُشكل جزءًا لا يتجزأ من تنميتها بكل أبعادها، وعلى العكس من ذلك نجد أن أغلب الدول النامية ترتجل الحلول للمشكلات التى تواجهها، وإن أظهرت أنها تعالج مشكلاتها وتحدياتها بالبحوث والدراسات، فعن غير قناعة، فصناع القرار ومتخذوه لهم قناعاتهم الخاصة وطريقتهم المثلى التى قد تكون بعيدة كل البعد عن مناهج البحث العلمى والتطوير التقنى المتخصصة التى أحدثت الفرق بين دول متقدمة ومستمرة فى التقدم وأخرى متعثرة بطىء تقدمها.
وبالتأكيد فهامشية الزراعة والتصنيع والتسليح ورداءة منتجاتها، وفشل النظام الاقتصادى والاجتماعى تعود أصلًا إلى ضعف التعليم وتردى البحث العلمى والتطوير التقنى، وعدم الاهتمام بها الاهتمام الكافى الذى يجعلها تقود التنمية وتُعظم الاستفادة من الموارد. وبالمقابل ساد سوء المنتج الزراعى والحيوانى، وتدنى مستوى جودة المنتج الصناعى وقل الإقبال على شرائه، وانحصرت الصناعات فى مجالات جُلها تقليدية غير منافسة.
وتفشت الأمراض وارتفعت تكاليف العلاج، وارتفع سعر طاقة الكهرباء على المستهلك وانقطعت عنه أحيانًا أخرى. والغذاء الصحى معاناته أشد بين بذور مضروبة وأسمدة مسرطنة، ومستهلكات مضرة بالصحة مفضية إلى المرض، وموهنة للجسم والفكر البشرى.
تعاظمت التحديات وتفاقمت المشكلات واتسعت دائرة التهديدات، فالقضية الفلسطينية والحرب الطاحنة على أرض فلسطين، وفى اليمن والسودان، وبقايا غمام دخانها فى سوريا ولبنان وليبيا والعراق يبدو أنه ما زالت وستظل مساحة واسعة تتنازع القوى الدولية على أوتارها وتلعب على خيوطها، وكأن حلولها مستعصية ومعالجتها مستحيلة. أما آن الوقت أن يُفسح للبحث العلمى والتطوير التقنى المجال لحلها، واستحقاق شىء من قيادة المشهد بصناعات مدنية وعسكرية تُحقق هدفًا مزدوجًا له سمة الردع والتأثير الاستراتيجى المستمر؟.