رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حد يصحى جمال حمدان

يبدو أن الدكتور جمال حمدان، رحمة الله عليه، لم يكن مجرد عالم فى الجغرافيا يقرأ التاريخ ويفهم فى علم النفس.. يبدو أنه لم يكن مجرد مهووس بحضارة مصر وشخصيتها التى أضاع عمره بحثًا فيها وعنها.. يبدو أنه لم يكن عارفًا بأسرار العدو وأحلامه ومطامعه.. يبدو أنه كان يقرأ الطالع ويعرف إلى أين سنصل.. يبدو أنه كان يعرف أن أحد الذين سيمشون بيننا ويأكلون من خبزها سيقولون ذات مساء: نعمل إيه بالجغرافيا.. والتاريخ.. نعمل إيه بالفلسفة؟.. وعشان عرف.. انتحر.

المسألة ليست فى أن أحدهم أطلق رأيًا عبر إحدى الشاشات.. الموضوع فى أن هذا الرأى الشاذ الجهول.. يتردد فى الشارع بين أبناء الجيل الجديد وبقوة لا يمكن إنكارها.. ماذا هم فاعلون بالعلوم واللغات والفلسفة؟.. إذا كان النموذج الذى يسطو على مقدمة المشهد من عينة حمو.. وصاصا.. وكزبرة.. إذا كان لاعبو الكرة هم الأوفر حظًا وعليهم تتهافت الميكروفونات والمعجبات والشيكات. ذلك المذيع الذى اعتلى مقعده بصدفة مدبرة لم يرتكب ذنبًا.. هناك سياق عام جرنا جميعًا إلى هذه المهزلة بدأ مع الانفتاح الاقتصادى السداح مداح مطلع سبعينيات القرن الماضى. لم يكن أخونا موجودًا وقتها.. وقت أن قررت حكومات متعاقبة أن تسمح لكل من هب ودب باللعب فى العقل المصرى.. ألم يدخل إلى ساحة البرلمان فى وقت ليس ببعيد مدلسون ومزورون وتجار عملة ونواب سميحة.. ألم يصبح تجار الخردة منتجين يشكلون وعى الأبناء الذين صاروا رجالًا عواجيز الآن بأفلام المقاولات. الشارع قالها قبل أن يتلفظ بها ذلك الشخص.. لقد تأخرت قيمة العلوم.. حتى وإن خرج بيننا زويل.. وتأخرت قيمة الآداب حتى وإن خرج من بيننا نجيب محفوظ.. تراجعت قيمة الجغرافيا وإن كان من بيننا جمال حمدان. المصيبة أن ما يفعله الصغار يأتى أحيانًا.. بل فى أغلب الأحيان عكس ما ترمى وتسعى إليه الحكومة وقيادات البلد ومؤسساتها.

منذ أيام قليلة أطلقت وزارة النقل اسم العالم الكبير د. جمال حمدان على أحد المحاور المهمة بعرض النيل فى سوهاج.. بالتحديد محور ساقلتة المراغة.. كدت أطير فرحًا عندما عرفت الأمر من صديق بالمحافظة.. أدهشنى أن هناك مَن يعى ويعرف ويفكر ويقرر.. أن يظل ما أنجزه الرجل حاضرًا تكريمًا لما أنجز.. وله.. ولمصر التى كان يسعى بها ولها.. الدولة نفسها التى قالت إن أحد أهم ما تسعى إليه هو بناء الإنسان.. فكيف يا هذا نبنى ذلك الإنسان.. ألا يعرف ذلك المجهول.. أن الذين هلعوا عند حريق الجمعية الجغرافية.. لأن قلب البلاد يعيش هناك على تلك الأرفف.. وأن من سعوا لحريق المجمع العلمى كانوا يرغبون فى حرق عقلها. 

نعرف أن التعليم يعانى.. وأن المعلمين أسيادنا وسادتنا وجسرنا إلى المستقبل يعانون من أوضاع مرتبكة.. لكننا نعرف أيضًا أنها غمة وستزول.. وأن الدولة تجرى بكل سرعتها لإصلاح ما أفسده السابقون.. ولكم فى المدارس التى تبنيها حياة كريمة فى قرانا شاهد. 

هذا الذى لا يرى فى الجغرافيا وأساتذتها وعلومها نفعًا.. يجهل أن العالم كله فى سنواته الأخيرة يعانى من غضب الطبيعة.. المناخ.. غضب الجغرافيا.. وأنه لا حل لأزمات العالم فى طعامه وشرابه.. حره وبرده إلا بهؤلاء العلماء وتلك العلوم. ذلك المجهول.. لا يعرف أن اقتصادات العالم الأول لم تكن إلا بعلومها الإنسانية.. ربما لم يسمع هذا.. أن بلدًا مثل الصين خصص المليارات بلا عدد ليبحث عن تراثه الشعبى. العيب مش عليك أكيد.. ولا يشغلنى ما قلت قطعًا.. فهذه العلوم وجدت بالأساس لأن العالم يحتاجها.. ولا خوف عليها ولا يحزنون فبعض الجهلاء سبق وأن أحرقوا أهم مكتبات العالم.. وتجاوز العالم كوارثه تلك بالعلوم ذاتها. 

الخطر الحقيقى ليس فى ذلك الكلام العبثى.. فقد أصبح رقمًا بجهل رأيه.. بقى ترند يعنى.. لكن نظرة مدققة لرد فعل الشباب والناس على السوشيال ميديا تؤكد أنها غمة طارئة.. وأن الناس تعرف ما لا يعرفه أمثال هذا الذى جهل أصول مهنته قبل أن يجهل أهمية تلك العلوم التى يطالب بنفيها.

هناك فارق كبير بين تشجيع الأبناء وأولياء أمورهم على اختيار الدراسة التى تؤهلهم لسوق العمل.. وبين ما قصده أخونا المذيع فى سقطة تعودنا مثيلاتها منه.. وكادت إحداها تتسبب فى فتنة فى بيوت الصعيد. نحتاج بالتأكيد إلى تغيير نظرتنا إلى ما يسمى كليات القمة.. إلى مناقشة الأعداد التى تذهب إلى كليات لا تحتاج سوق العمل إليها.. نحتاج إلى تشجيع دراسة الحرف والصناعات التى نحتاجها ونستورد الخبراء فى البعض منها.. لكن لا يعنى ذلك على الإطلاق أن نزدرى المدرسين.. ولا أهل الفلسفة.. ولا أهل الجغرافيا والتاريخ. يكفينا ما تعرض له تاريخنا من تشويه.. وانحرافات.. بعضها بقصد وبعضها بجهل.. حتى إن الآلاف ولسنوات طالبوا بإعادة كتابة تاريخنا.. ألم يحدث ذلك؟.. كيف تطلب سيدى من الجيل الجديد أن ينتمى إلى الأرض وهو لا يعرف حدوده؟.. كيف تطلب منه أن يدفع حياته ودمه فداء حدود أنت لا تعترف بعلومها؟.. كيف تبحث عن المستقبل وأنت بكل أريحية تريده جاهلًا بكل تاريخه.. وبالأثمان التى دُفعت من السابقين لنبقى على هذه الأرض؟ 

مَن يعيشون فقط بمنطق بكام.. هم غالبية لا ننكر وجودها.. فى ظل عالم تتحكم فى حياة أفراده سيطرة رأس المال.. لكن منظومة القيم لا علاقة تربط بينها وبين ما يجرى فى البورصة.. بهذا المنطق يا سيدى.. المخدرات أكثر نفعًا فلماذا لا نزرعها؟.. الدعارة أكثر كسبًا.. فلماذا لا نبيحها؟.. خيانة العرض والأرض أكثر كسبًا.. فلماذا لا ينضم سيادته إلى طابور الجواسيس؟

ربما يخرج ذلك الشخص غدًا أو بعد ليعتذر عن سقطته.. وربما تفعل قناته.. وربما يعاقبه أولو الأمر.. لكن سيظل خطر هذا التيار موجودًا.. ينخر فى الحيطان.. وفى سقف البيت.. إنه أكثر خطرًا من النمل الأبيض الذى حذر منه عمنا عبدالوهاب الأسوانى فى روايته الشهيرة تلك التى صدرت أواخر سبعينيات القرن الماضى.. النمل يأكل السقف فقط.. لكن هؤلاء ينخرون فى المفاصل.. مفاصل الحيطان.. والسقف.. والذين يعيشون أسفله.