الإفتاء ومكارم الأخلاق
وسط أحداث عاصفة تمر بالمنطقة العربية والعالم الإسلامى كانت مصر تحتضن مؤتمرًا عالميًا للإفتاء، يقوده فضيلة الأستاذ الدكتور شوقى علام، مفتى الجمهورية- رئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء فى العالم، حول "الفتوى والبناء الأخلاقى فى عالم متسارع"، برعاية كريمة من السيد الرئيس عبدالفتاح السيسى، إدراكًا من سيادته بأهمية بل وضرورة أن تكون هناك منظومة مبادئ حاكمة قائمة على الأخلاق والقيم الإنسانية المشتركة، وهو ما أشارت إليه معظم كلمات رؤساء الوفود المشاركة فى هذا الملتقى العالمى، حيث كانت هناك إشادة كبيرة بجهود الدولة المصرية وقيادتها السياسية فى مواجهة خطاب الكراهية والأفكار المتطرفة والمنحرفة.
بدعوة كريمة من فضيلة الدكتور مفتى الجمهورية تشرفت بحضور جانب من هذا المؤتمر الكبير.. والحقيقة أننى فوجئت بمشاركة ما لا يقل عن 104 ممثلين لدولهم، ما بين الوزير والعالِم والفقيه والمفتى، إلا أننى لم أفاجأ بهذا التنظيم الرائع والإعداد المتميز الذى قامت به دار الإفتاء المصرية، وهو ما اعتادت عليه دائمًا، حيث جاءت جلسات النقاش وورش العمل والأبحاث المقدمة فيه تعالج ما اعترى المجتمعات الإسلامية من عورات وتجاوزات تحت مسميات مختلفة بل وتستخدم التطورات التكنولوجية والذكاء الاصطناعى لتشويه صورة الإسلام ورموزه، وهو ما تصدى إليه هذا المؤتمر، حيث أوضح فضيلة المفتى أن المؤتمر حريص على إرساء مجموعة من المبادئ تكون قائمة على الأخلاق والقيم الأخلاقية التى يجب أن تكون أساسًا للواقع العالمى حاليًا، وبيان دور الفتوى فى تعزيز هذه المبادئ، مع بيان دور هيئات ومؤسسات الإفتاء الدولية والإقليمية فى تعزيز الأخلاق والقيم الإنسانية، والعمل على إيجاد أرضية أخلاقية مشتركة للتعاون بين هذه المؤسسات لتقديم الحلول الإفتائية لمواجهة تحديات البناء القائم على الأخلاق والإنسانية انطلاقًا من الشريعة الإسلامية وما حثت عليه الشرائع السماوية.
هكذا جاءت المنطلقات الفكرية والمرجعية الشرعية التى انطلقت منها أعمال المؤتمر، خاصة على ضوء الأزمات الأخلاقية التى نعانى منها فى هذه الحقبة الزمنية التى نعيشها حاليًا، حيث من اللازم أن تتجه جهود المؤسسات الدينية إلى بذل المزيد من تلك الجهود لتجاوزها.. وها هى دار الإفتاء المصرية تتصدر المشهد لوضع آليات وأفكار بل وتحدد الخطوات اللازم القيام بها لتحريك وتفعيل دور الإفتاء فى جميع أنحاء العالم لتحقيق هذا الهدف.
سيطرت قضية الأخلاق وكيفية نشر مكارمها فى العالم المعاصر من أجل بناء الإنسان الوسطى المتسامح والحد من مشكلات التنازع والتنافر على مجريات المؤتمر العالمى التاسع للإفتاء، حيث أجمع المشاركون على أن التمسك بأخلاق الإسلام هو الحل لمشكلات العالم المعاصر، خاصة أننا نواجه أزمات تعصف بمحيطنا الإقليمى والدولى تجعل هناك مسئولية دينية مشتركة بين دول العالم الإسلامى للحفاظ على المجتمع الإنسانى من الدخول فى منحدر أخلاقى.
اعتبر الحضور أن المؤتمر يمثل فرصة كبيرة لمواجهة التحديات الأخلاقية التى يمر بها العالم، خاصة فى ظل تسارع الأحداث فى جميع المجالات، من خلال رؤية عالمية مشتركة يستفيد منها الجميع.. وإنه يدق ناقوس الخطر فى عالم يشهد تراجعًا فى الأخلاق، حيث أصبحت المصالح هى المسيطرة على الأحداث حول العالم، وأن هناك حاجة ماسة لميثاق إفتائى عالمى لمواجهة الفتاوى المتطرفة التى تدمر الشعوب والأوطان وتستخدمها التنظيمات والجماعات الإرهابية فى تفتيت الأمة.
تضمن المؤتمر ثلاثة محاور رئيسية، حيث ناقش فى المحور الأول "البناء الأخلاقى فى الإسلام ودور الفتوى فى تعزيزه"، وتناول المحور الثانى "الفتوى والواقع العالمى.. الأفكار والمبادئ"، ثم ختم المحور الثالث بمناقشة "دور الفتوى فى مواجهة عقبات وتحديات البناء الأخلاقى فى عالم متسارع ". وعلى هامش هذه المحاور الرئيسية عُقدت مجموعة من ورش العمل تناولت صناعة ميثاق أخلاقى إفتائى للتطورات فى مجالات العلوم التجريبية والطبيعية والاجتماعية والذكاء الاصطناعى، حيث تم مناقشة خطورة استخدام هذا التطور بشكل يسىء للإسلام من خلال تطبيقات سلبية، والتأكيد على ضرورة مواجهة ذلك من خلال تعزيز ثقافة استخدام الذكاء الاصطناعى بالشكل الذى يحافظ ويحقق المبادئ الأخلاقية لاستخدامه، وضرورة تصميم برامج تعليمية وتوعوية تدمج الذكاء الاصطناعى فى التعليم الشرعى واستشراف المستقبل الواعد بهذا المجال.. كما تناولت إحدى ورش العمل رصد وتحليل إشكاليات المحتوى الدينى المتطرف فى المنصات الرقمية وسبل معالجته.
كان الهدف الرئيسى للمؤتمر، الذى أداره بحكمة واقتدار فضيلة الدكتور شوقى علام مفتى الجمهورية، توصيف المشكلة وحقيقتها وسبل مواجهتها ورصدها وتقييمها، والتعامل مع التحديات العالمية المتعلقة بالقيم والأخلاق ومقياس تراجعها فى حياة الإنسان وطغيان قيم العولمة السلبية فى كافة المجالات والآثار المدمرة لذلك المسلك على مستوى الفرد والأسرة والمجتمعات والسلوك الإنسانى كله، ومحاولة خلق نموذج جديد للمبادئ والقيم يحكم النشاط الإنسانى الفردى والجماعى.
لم يغفل المؤتمر دور الفتوى فى نشر قيم العدل والإنصاف ومقاومة خطاب الكراهية والعنف وسفك الدماء، وذلك من خلال إبراز جوانب المأساة الإنسانية التى يعيشها الأشقاء الفلسطينيون فى قطاع غزة نتيجة لازدواج المعايير فى التعامل وغياب الضمير تحت وطأة منطق القوة وغياب القيم الإنسانية.. كما لم يترك المؤتمر من خلال محاوره وورش عمله أى مجال إفتائى إلا وتعرض إليه، بل إنه تم عرض مشروع حول صياغة ميثاق أخلاقى إفتائى للتطورات فى مجالات العلوم التجريبية والطبيعية والاجتماعية والذكاء الاصطناعى.
ومن هذا المنطلق جاءت توصيات المؤتمر متلائمة تمامًا مع موضوعه الرئيسى والهدف منه، حيث كان فيما بينها دعم القضية الفلسطينية بكافة الوسائل الممكنة، وتقدير جهود القيادة المصرية فى تعزيز الخطاب الدينى الوسطى المعتدل وتقديم خطاب دينى مستنير يواكب العصر ويواجه الفكر المتطرف والإرهاب، مع الدعوة إلى استخدام الإعلام لنشر القيم الأخلاقية والتوعية بمخاطر الفكر المتطرف، مع التأكيد على أهمية الدور الذى تلعبه التعاليم الإسلامية السمحة فى الارتقاء بالأفراد والمجتمعات البشرية.. كما دعا المؤتمر جميع المؤسسات الإفتائية الوطنية إلى التعاون والتكاتف لمواصلة التجديد الفقهى والإفتائى، وتقديم خطاب يناسب العصر انطلاقًا من مقاصد الشريعة وغاياتها العليا، خاصة على ضوء ما نملكه من ثروات فقهية وتشريعية غزيرة قادرة على صناعة فتوى تتناسب مع حجم التسارع والمتغيرات الدولية فى كافة المجالات.
لقد كان مؤتمر الإفتاء العالمى يمثل رسالة عالمية من الأرض المصرية لإيقاظ ضمير العالم لمواجهة التحديات الأخلاقية عبر الفتوى الرشيدة المعتدلة، ونشر وسطية الإسلام لمواجهة خطاب الكراهية والأفكار المتطرفة والمنحرفة، بما يسهم فى عودة منظومة الأخلاق عالميًا.. كما كان يمثل تظاهرة عالمية فى تقدير شخص فضيلة الأستاذ الدكتور/ شوقى علام، مفتى الديار المصرية ورئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء فى العالم، يجعلنا نباهى به عالمًا جليلًا مجددًا ووطنيًا أصيلًا نفخر ونعتز به فى دولتنا المصرية الفتية.