رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

خريطة جديدة للثقافة فى مصر

عند المصريين مثل سائر يقول: «بعد العيد ما يتفتلش الكحك».. وهذا العيد لم يكن فيه كعك من الأصل.. فما تعودناه هو أنه عيد لحمة.. لكننا فى كل الأحوال، وأيًا كان العيد وشكله، كنا دومًا على موعد مع موسم ثقافى جديد.

هذا العام.. وهو ليس بجديد.. مارس المصريون نفس طرائق احتفالاتهم.. بالذبح والأضحيات وبعض الحفلات.. فتحت السينما أبوابها والمتنزهات والحدائق.. ومضت بعض المراكب فى النيل.. وراح الكثيرون يصطافون فى السواحل.. بعض السواحل قديمها وحديثها.

فتحت مسارح الدولة أبوابها كالمعتاد.. وبعض هذه المسارح تقول شبابيك تذاكرها إنها كاملة العدد منذ الافتتاح وحتى تاريخ كتابة هذه السطور.. وربما لأيام أخرى طويلة قادمة.

الحال على ما يرام.. إذن فلماذا يتوجع البعض؟.. لماذا تعج مواقع التواصل بحالات حنين للماضى وخناقات المثقفين ومراجعاتهم؟.. هل هناك أى علاقة ما بين التعديل الحكومى الجديد وخارطة الثقافة المصرية بتجلياتها المختلفة؟!

أعتقد أنه لا وجود لأى صلة محتملة بين ما يجرى على الساحة وأى تعديل.. فلماذا «يزفر» المصريون ويتشتتون بحثًا عن صياغة جديدة لصناعة الثقافة فى مصر؟.. والسؤال الأهم: هل نحن فى حاجة إلى ذلك؟! هل نحن بالفعل فى حاجة إلى خارطة جديدة لصناعة ثقيلة اسمها «الثقافة»؟!

للإجابة عن هذا السؤال.. وجب أن نستعرض أولًا قليلًا مما يجرى على الساحة من تجليات وظواهر بعضها مرتبط أو اعتدنا أنه مرتبط بالعيد وما يتلوه من مواسم معتادة، سواء لها علاقة بامتحانات الثانوية العامة أو مطلع الصيف.. الذى جاء قبل موعده بأشهر.

تغير المناخ فى مصر.. الجغرافيا غاضبة بما يكفى لأن تتحول البيوت إلى أفران حارة لا نستطيع مغادرتها.. فالشوارع أكثر قسوة لأسباب غير مفهومة.. المناخ وحده ليس سببًا كافيًا.. تدفعنا موجاته غير المفهومة للبحث فى مسألة الثقافة المصرية.. تطلعات الجيران، ومآسى حروب الجنوب والشمال.. وصراع الكبار فى عالم السياسة الدولية ليس مبررًا أيضًا للبحث عن صياغة جديدة للثقافة.

العاديون والعامة.. تشغلهم أخبار الطقس، وتأسرهم أخبار الاقتصاد، وتتراجع لديهم أهمية الثقافة بكل تجلياتها وتنويعاتها وأطروحاتها.. فهل نحن نهرب من تقلبات الجغرافيا والمناخ والاقتصاد والحركات السياسية فى عالم يحاصرنا من الجوانب الأربعة، إلى السينما والمسرح وأغنيات عمرو دياب وتامر حسنى؟!

تبدو هذه الأسئلة ضربًا من الرفاهية فى عالم يعانى ربع سكانه من أزمات اقتصادية طاحنة.. ويعانى ربع آخر من تحولات جغرافية تهدد بالمجاعات.. لكن الثقافة دائمًا، هذا ما تعلمناه، هى عنوان لمرحلة مضت ومؤشر لمراحل مقبلة مهمة.. فماذا يجرى فى مصر فى عالم الثقافة؟

دون سابق إنذار ترك الشاعر صادق شرشر، وهو أحد شعراء العامية المميزين كان قد ترك الساحة لسنوات ليتفرغ للأعمال الدرامية والإعلانات.. ويكتفى بملاقاة الأصدقاء عبر صفحته الشخصية على «فيسبوك».

صادق.. وله من اسمه نصيب كبير.. فجأة عبر تلك الصفحة راح يفتش فى حالة قصيدة «نثر العامية»، أو العامية الجديدة، والسياق الزمنى الذى ظهرت فيه.. ثم عرج إلى كواليس منح الجوائز فى مصر.. ومنح الألقاب وشهادات الجودة.. ومنح التفرغ وغيرها من مزايا أفسدت المناخ الثقافى المصرى سنوات.. وفى الوقت نفسه راحت صحيفة «أخبار الأدب» تفتش عن ذاكرة الشعر الجديد عبر ملف عن ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضى.. وفيما هو الحال كذلك والبعض يترقب تعديلات مهمة فى مفاصل هيئات وزارة الثقافة، أعلن عن معرض كتاب جديد يقام فى مول العاصمة.

المصادر تشير إلى طفرة منتظرة فى العاصمة الجديدة.. مع وجود مدينة كاملة للثقافة والفنون تحتوى على دار أوبرا جديدة ومكتبة كبرى.. لكن فكرة «معرض المول» وباسم مصر كانت كافية لإثارة التساؤلات وظهور سؤال اللحظة.. هل نحن فى حاجة لخارطة ثقافة مصرية جديدة؟!

نجاح مسرح الحكومة عبر عملين جديدين تم افتتاحهما بعد العيد، الأول فى المسرح القومى «مش روميو وجولييت» من بطولة المطرب الكبير على الحجار وميدو عادل ورانيا فريد شوقى.. ومسرحية «العيال فهمت» لجيل جديد من المسرحيين بكتابة وأشعار طارق على وإخراج شادى سرور.. أنعش «خزينة» المسرح المصرى وذاكرته.. لكن يبقى الأمر تقليديًا فى موجهة طفرة غير مسبوقة تشهدها دول مجاورة لم تعرف «خشبة المسرح» من قبل.

تقليدية ما يقدمه عصام السيد وتامر عبدالمنعم وشادى سرور.. لا أتحدث عن مضمون وإخراج هذه الأعمال.. أتحدث عن شغل الشو المسرحى الذى صار ملازمًا الآن لأى حديث عن التطوير.. فرضت حديثًا مهمًا عن غياب المسرح المصرى فى السنوات الأخيرة.. عن سيطرة شبه تامة لمسرح القطاع الخاص لسنوات.. وسيادة «ذوق فنى» لاقى اعتراضات شديدة سنوات انتهت بغياب كامل لهذا المسرح ونجومه.. عادل إمام، سمير غانم، محمد نجم.. ومن تلاهم من نجوم الشباك.. علاء ولى الدين، محمد هنيدى، محمد سعد وغيرهم.. ثم ظهور ما سُمى عبثًا بـ«مسرح مصر»، وجيل أشرف عبدالباقى الذى لم يقدم سوى اسكتشات باهتة رديئة لم يبق منها سوى الاسم، وكأنه دليل على غياب «مصر» عن ساحة المسرح.

نفس الأمر حدث فى الموسيقى والغناء.. الذى انهارت صناعته تمامًا مع دخول عصر القرصنة الإلكترونية وغياب «صناعة الكاسيت» وما تلاها من محاولات لإحياء الموسيقى عبر مجموعة من الفرق والتيارات المستقلة تصادف وجودها مع صعود وتنامى ما سُمى بـ«ثورات الربيع العربى» وتداعياتها.. التى كلفت المنطقة أثمانًا باهظة أثرت على كل مناحى الحياة وعلى ثقافتها التى عانت من «الحيرة والارتباك».

صناعة الموسيقى تقلصت، ووصلت إلى مجرد اجتهادات فردية.. وعدد من متعهدى الحفلات.. لا فارق بين ما تتم صناعته لتقديمه فى الملاهى الليلية والكباريهات وحفلات الشواطئ والمصايف.. وفى المجمل لا يبقى من هذه التجارب، دون أى محاكمات أخلاقية لصناعها، سوى القليل.

حاول أبناء جيل الوسط البقاء وسط تلك التقلبات فى ساحة صناعة الموسيقى والغناء بقدر الإمكان.. استجاب بعضهم لأوضاع السوق.. وراح الآخرون يتلقفون «عصا» غريبة متلونة من أجل كسب العيش أحيانًا.. ومن أجل البقاء فى الصورة فى أغلب الأحيان.

حافظت الدراما، المسلسلات والأفلام، على القليل من إرث الغناء المصرى، حتى رحل الكبار، عمار الشريعى والأبنودى وسيد حجاب وأسامة أنور عكاشة، وتوارى واختفى ياسر عبدالرحمن، واكتفى عمر خيرت بموسيقاه الخالصة فى حفلات دار الأوبرا وبعض الحفلات الخاصة.

تعرضت الدراما نفسها لمنزلقات خطرة.. وتم إنقاذها فى لحظة فارقة عبر الشركة المتحدة.. التى حاولت أيضًا فتح شريان جديد فى جسد صناعة الموسيقى بمهرجان العلمين.

الآن.. وصلنا إلى مشهد مرتبك فرض نفسه على الجميع.. فكان أن خرجت صيحات «الاستغاثة» فى عز «صهد يوليو»، وبالتوازى مع نهايات «يونيو» بما يحمله من إشارات مهمة.. الآن نحن على أبواب مرحلة جديدة للثقافة المصرية، ليست بمعزل عما يجرى فى الإقليم من حولنا.. وهو الأمر الذى يدفعنا إلى طرح السؤال مجددًا:

هل نحن فى حاجة إلى صياغة ورسم «خريطة جديدة للثقافة المصرية».. تستفيد من وجود تجربة ومشروع سابقين؟!

تجربة بدأها الخديو إسماعيل ربما دون قصد، واستمرت تجلياتها حتى مطلع ثورة ١٩١٩ وما تلاها من إنجاز مهم فى صناعة الثقافة، عبّرت عنه خشبات المسرح وأغنيات سيد درويش.. ثم المشروع الثقافى الأهم فى نهاية خمسينيات القرن الماضى مع د. ثروت عكاشة وحكومة «يوليو».. والمشروع الذى توقف عمدًا أو قهرًا مع حرب يونيو عام ١٩٦٧ رغم الانكسار ظلت آثاره باقية فى السينما والغناء والكتاب.. ذلك الجيل الذى لا نزال نعيش فى ظله رغم التحولات المرعبة مطلع ستينيات القرن الماضى وما تلاها.

الآن.. وقد اقتربنا من ربع الألفية الجديدة.. هل يمكننا العودة لوصل ما انقطع أو البناء عليه لصياغة مشروع جديد يستفيد من بنية عمرانية مهمة وتحول مهم فى فهم العمران المصرى فى الجمهورية الجديدة؟!

معرض جديد للكتاب.. مشروع جديد لصناعة الموسيقى.. مشروع جديد لربط الزراعة والبيئة والجغرافيا والتاريخ.. بنقاط مضيئة فى خارطة مصر وصناعتها الجديدة.. أتصور أن كل ذلك يستدعى «خارطة جديدة للثقافة وللعمل الثقافى فى مصر».. عذرًا لن أحدثكم عن «صفعة» عمرو دياب.. ولا خناقات شيرين عبدالوهاب.. ولا موسيقى محمد رمضان.. ولا أغنية «القاضية».. الأمر أكبر من كل تلك الصغائر.. وأعتقد أنكم تشعرون بما أحس.. وأن هناك مَن يعرف ويقرر ويخطط ويرسم تلك الخارطة التى نحتاجها الآن.. وليس غدًا.