تغيير السياسات وتحديد الأولويات
منذ الإعلان عن التغيير الوزارى، والسؤال المطروح فى الشارع المصرى وفى الإعلام المرئى والمقروء والمسموع، ماذا يريد المرء من الوزارة الجديدة؟، وبدأ المواطنون يطالبون ويحلمون ويتمنون تحقيق مطالبهم، التى لم تتم الاستجابة لها خلال السنوات الأخيرة، بل وازدادت معاناتهم يومًا بعد يوم، سواء فى تدبير احتياجاتهم المعيشية والضرورية الأسرية، أو سواء فى تلقى الخدمات الرئيسية والأساسية، كالصحة، والتعليم، أو زيادة الضرائب غير المباشرة والرسوم على الخدمات المقدمة للمواطنين.
إن المشكلة ليست فى تغيير الأشخاص، فكل الوزراء السابقون والحاليون ينفذون السياسات والخطط الموضوعة لهم، إننا فى حاجة إلى تغيير السياسات، وتعيين مسئولين ذوى كفاءة وخبرات وقدرة على وضع وصنع سياسات، تحل الأزمات وتؤدى إلى النهوض بالبلاد.
ما زال الشعب المصرى يكتوى بنار ارتفاع الأسعار كل يوم دون رقابة على الأسواق ودون تفعيل وتنفيذ قوانين حماية المستهلك وحماية المنافسة ومنع الاحتكار، هذا بجانب ارتفاع أسعار الأدوية ارتفاعًا جنونيًا، مع نقص حاد فى العديد من الأدوية الهامة التى تخص الأمراض المزمنة.
ومما زاد الطين بلة فى الفترة الأخيرة انقطاع الكهرباء، الذى تسبب فى معاناة الأطفال وكبار السن، ومعاناة الطلبة الذين يستذكرون دروسهم، بجانب التأثير على المصانع والشركات المنتجة والتى اضطرت للإغلاق ومنها شركات الأسمدة، مما يؤثر على توافر السماد، ويؤدى لارتفاع سعره، وتكون النتيجة خراب الزراعة المصرية، وخراب بيوت ملايين الفلاحين. وتحدث كل هذه الأزمات نتيجة لسياسات مخالفة للدستور المصرى، الذى ينص على أن الزراعة مقوم أساسى للاقتصاد الوطنى، وإلزام الدولة بحماية الرقعة الزراعية وزيادتها، وتنمية الريف المصرى، وتوفير مستلزمات الإنتاج الزراعى والحيوانى للفلاح، بجانب حماية صغار الفلاحين. ولذا تكون الأولوية لسياسات تطبق ما نص عليه الدستور وانتهاج سياسة التنمية الإنتاجية الزراعية، التى توفر احتياجاتنا من السلع الغذائية، بل وتفيض للتصدير، حتى نعالج الخلل فى الميزان التجارى، حيث إن الاستيراد ثلاثة أضعاف التصدير.
ودعونى أقف عند هذه النقطة الخاصة بالكهرباء، حيث تخبط القرارات وانتهاج سياسات غير مدروسة لتحديد الأولويات، بل ويخرج المسئولون علينا بأخبار متضاربة، تدل على التخبط فى حل الأزمات والمشكلات التى تعانى منها البلاد. ألم يخطر ببال المسئولين أن انقطاع الكهرباء سيكلف الدولة كثيرًا من الخسائر، سواء إغلاق المصانع، أو التأثير على الخدمات التى تقدمها الشبكات الإلكترونية؟ وزد على ذلك احتراق الأجهزة الكهربائية فى البيوت المصرية، بما يكلف الأسر ماديًا فوق طاقتها.
وهنا تكون الأولوية لحل أزمة انقطاع الكهرباء، بتوفير الميزانية ووضع خطوات وآليات من جانب خبراء، يتمتعون بالكفاءة وليس بالاعتماد على أهل الثقة
وإذا تحدثنا عن الخدمات الصحية، والتى هى حق للمواطن وفقًا للمادة (18) من الدستور، والتى تنص على أن الصحة حق لكل مواطن، والحفاظ على المستشفيات التى هى ملك للشعب، بجانب النص على أن ميزانية الصحة 3% من الناتج المحلى الإجمالى، وتزداد حتى تصل للمعدل العالمى (7%)، مع تطبيق التأمين الصحى الشامل، والاهتمام بتحسين مستوى معيشة الأطباء وكل العاملين بالقطاع الصحى.
وهنا نطالب بأن تكون الأولوية لزيادة ميزانية الصحة إلى ما نص عليه الدستور، حيث إنها لا تزيد منذ صدور الدستور من 10 سنوات وحتى الآن، عن متوسط 1،5%، وفى ميزانية هذا العام 1،2% من الناتج المحلى الإجمالى، ونطالب بتحسين وضع العاملين بالقطاع الطبى، لنوقف هجرة الأطباء إلى الخارج، ونعالج النقص فى الأطباء والتمريض. كما نطالب بإعادة النظر فى تطبيق قانون التأمين الصحى رقم 2 لعام 2018، حيث إن التطبيق حتى الآن لم يغط أكثر من 4% من الشعب المصرى بعد مرور 6 سنوات فهل يمكن أن يغطى 96% من الشعب فى الست سنوات المقبلة كما هو مطروح.
ونطالب بنمو صناعة الدواء فى مصر، التى تعتمد على توفير المواد الخام المصرية، وتعتمد على تطوير صناعة الدواء للاكتفاء الذاتى، بل وللتصدير مثلما كنا فى ستينيات وسبعينيات القرن الماضى.
ونقول للمسئولين إن الصحة أمن قومى مصرى، فلا يجب تأجير أو بيع المستشفيات بل يجب الحفاظ عليها وتطويرها لخدمة الملايين من الشعب المصرى الواقعة تحت خط الفقر.
وإذا انتفلنا إلى التعليم، فإننا فى حاجة إلى مؤتمر قومى للتعليم، لوضع سياسة تعليمية تعتمد على تعميق الانتماء القومى، وتعميق الهوية الوطنية والمواطنة، وتكريس قيم العمل والعلم، وتمكين الطالب من تحصيل المعرفة، والمهارات والخبرات المطلوبة للعمل فى التخصصات المختلفة، وتنمية القدرات والمواهب الفنية والأدبية والرياضية، وربط التعليم باحتياجات سوق العمل والاهتمام بالتعليم الفنى والاهتمام بالتعليم التكنولوجى، والاهتمام بالبحث العلمى، ووضع أولوية زيادة ميزانية التعليم (الأساسى والجامعى) والبحث العلمى لتتقدم الدولة وتنهض.
نحن بحاجة إلى زيادة ميزانية التعليم والبحث العلمى (التى لا تزال تتراوح بين 2% عام 2022، و1،9% عام 2023، اما فى ميزانية عام 2024 أصبحت 1،7% من الناتج القومى الإجمالى)، من أجل تغطية نقص المدرسين (300 ألف مدرس) ونقص الأبنية التعليمية، ومن أجل رفع مرتبات العاملين فى قطاع التعليم. ويهمنى أن أشير إلى أن الدستور ينص على نسبة 7% من الناتج المحلى الإجمالى على التعليم والبحث العلمى (4% التعليم الأساسى، و2% التعليم الجامعى، و1% البحث العلمى).
ولذا أقول أين الأولويات يا مسئولين فى السلطة التنفيذية، وأين الرقابة وأين التشريعات يا نواب مجلسى النواب والشيوخ؟
إن الدول التى نهضت اعتمدت على الاهتمام بالتعليم والصحة، واعتمدت على التنمية الإنتاجية فى الزراعة والصناعة. وإذا كنا أشرنا إلى أولوية الصحة والتعليم والإنتاج الزراعى، فإننا نؤكد على الصناعة المصرية، التى تم تدميرها بسياسات الخصخصة والبيع والإغلاق، مما أدى لاعتمادنا على الاستيراد من الخارج، وأدى إلى تشريد مئات الآلاف من العمال، وزيادة البطالة وعدم توفير فرص العمل وزيادة المنضمين لطابور البطالة والفقر.
إننا فى حاجة إلى سياسات فى الصناعة والاستثمار تعتمد على الإنتاج وتطوير المصانع والشركات الموجودة، وتصنيع الخامات محليًا، والاهتمام بالصناعات التحويلية وأيضًا فى حاجة إلى تشريعات جديدة، التى تم تقديمها لمجلس النواب، ولم تتم مناقشتها وإصدارها، وفى مقدمتها قانون العمل، قانون يوفر الأمن والأمان بعقد عمل دائم، ويوفر العمل اللائق والأجر العادل، ويوفر الحماية الاجتماعية من معاش وتأمين صحى للعمالة غير المنتظمة بجميع فئاتها، قانون يوفر حماية العاملات فى المنازل، قانون يُجرِّم عمالة الأطفال، ويُجرِّم العنف فى أماكن العمل، قانون لا يقوم على التمييز بين الجنسين فى التعيين والترقية والأجر.
وإننا نطالب الحكومة بالتصديق على الاتفاقية (189) لعام 2018 الخاصة بـ"حماية العاملات فى المنازل" والصادرة من منظمة العمل الدولية، وأيضًا الاتفاقية (190) لعام 2019، الخاصة بـ"مناهضة العنف فى أماكن العمل".
كما أننا فى حاجة إلى الاعتماد على الذات والكف عن سياسة القروض، التى أدت إلى مزيد من إحكام حلقة الديون، وأدت إلى بيع أصول البلد، مما يعتبر تهديدًا للأمن القومى المصرى.
إننا فى حاجة إلى تغيير السياسات، وليس الاكتفاء بتغيير الأشخاص، وانتهاج نفس السياسات القديمة التى أوصلتنا إلى أزمات ضخمة، أدت إلى زيادة التضخم، وارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة، وتردى الخدمات. وفى حاجة إلى تحديد الأولويات فى الإنفاق الحكومى، فتنمية البشر والاستثمار فى الثروة البشرية أولوية عن التنمية فى الحجر والبنية التحتية فقط.
هذه بعض الأولويات من أجل المساهمة فى حل بعض الأزمات ومن أجل النهوض ببلدنا وتحقيق الرخاء والسلام والاستقرار، وللموضوع بقية.