الوجع المكشوف فى غزل البنات
كنت أسمعها ولا أعيها.. أعوذ بالله من قهر الرجال.. وكنت أرى فى الأمر نوعًا من ذكورية عنصرية غريبة.. القهر قهر.. راجل.. ست.. عجوز.. صبى.. الألم واحد.. هكذا كنت أظن.. ولم يكن الأمر يتعدى مماحكات اللغة وولعى الشديد لسنوات باكتشاف ما وراء الحروف، وبخاصة فى لهجتنا الصعيدية.
لكننى هذه المرة كأننى أراه.. رجلًا يقف أمامى فى صلف وغرور.. أتأمله وأكاد أبكى.. لا أعرف لماذا تضغط صورته على أعصابى بهذا الشكل؟.. هو الفقر لا شك.. ذلك الذى تمناه الإمام رجلًا ليقتله.. فى مواجهة قلة الحيلة.
مجرد فيديو صغير، صورة لشاب سوهاجى من سنة يبيع الحلاوة.. حلاوة غزل البنات.. كم أحب هذه الحلوى.. طعمها لا يزال فى حلقى لم يغادر بعد.. رغم مغادرتى الطفولة من أربعين سنة ويزيد.. كأنه نفس الرجل الذى كان يمر أمام بيتنا على جسر الترعة ينفخ فى مزماره فنجرى إليه بما تيسر من قروش قليلة.. نشترى حلواه التى تهرب إلى الحنجرة وتذوب فى ثوانٍ تاركة طعمها اللاذع المحبب.. كم أحب الرجل وأحب أيامه.. أعتقد أنه لا يزال موجودًا فى كل قرانا.
لم أفكر يومًا فى حياته.. من أين أتى؟.. أو أين يعيش؟.. وماذا عن أطفاله؟.. هل يحبون حلوى أبيهم؟.. الآن أعود إليهم وإلى أحوالهم بعد أن أوجعنا بائع دار السلام.. وهى قرية تواجه قريتى من ناحية الشرق.. أعرف ناسها وأعيانها وعائلاتهم العربية شديدة الغنى والكرم.. والعصبية.. كيف يخرج من بين ديارهم كل هذا الوجع.
أعجبنى أن الرجل الذى خانته دموعه لم يتسول.. هو رجل شريف.. يعمل.. حتى وإن كانت مهنة بسيطة.. هى كذلك بالفعل لكنها مهنة عظيمة تنشر الفرح فى عيون الصغار، وهل هناك أعظم من مهنة تصنع الفرح.. يوم العيد هو يعمل مثل أصحاب مهن كثيرة شغلتهم أن يعملوا لنفرح.. لا عيد لهم سوى بفرحنا.. هو اعتاد أن يكسب سبعين جنيهًا.. فقط.. فى يومه الطويل فى عز الحر، لكنه راضٍ ولا يريد أكثر من تلك الجنيهات يمنحها لأمه وزوجته وأطفاله.. يا الله.. لم يلعن الرجل حاله.. لم يتلصص على أغنياء قريته وما أكثرهم.. وعندما قسى العيد عليه ألقى بحلواه على الطريق، فإذا هى عصاة تسعى عبر السوشيال ميديا فينتفض كل من شاهده ليساعد.
تحرك رجال حياة كريمة ورجال أعمال من أماكن متعددة للبحث عن الرجل.. ووصل إليه زملاؤنا من صحف كثيرة فى وقت واحد.. عزة نفس الرجل أتعبتنى.. بساطته أتعبتنى.. فكم بائع حلوى أتعبه القهر ولم تلتقطه الكاميرا العابرة.
انتفض أهالى دار السلام.. وأتمنى أن تتحول انتفاضتهم إلى ما هو أكثر من صاحب الحلوى.. فتلك البلاد عامرة دام عمارها.. ويستطيع شبابها، بالتعاون مع المؤسسات الأهلية العاملة فى تلك البلاد، وضع آلية لمساعدة من قهرتهم ظروفهم.. والأهم، ونحن على أعتاب تعديل وزارى جديد، أن الحكومة الجديدة مطالبة برصد حقيقى على الأرض لفرص الاستثمار فى سوهاج.. تلك البلاد واعدة.. وتملك فرصًا حقيقية لتغيير أحوال أبناء الجبل والريف.. لا نحتاج لخطط لا تعرف شيئًا عن واقع تلك المحافظات.. اذهبوا إلى هناك، واستمعوا إلى أهلنا وما يحتاجونه وحدهم يعرفون.. جعل الله أيامكم كلها أعيادًا.. ووقانا وإياكم قهر الرجال.