رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

احتفالات إنزال نورماندى!

فى غياب الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، اجتمع قادة العالم الغربى، أمس الأول الخميس، فى فرنسا، لإحياء الذكرى الثمانين لـ«إنزال نورماندى»، بثلاثة احتفالات، أولها فى المقابر الأمريكية، قرب مدينة «كولفيل سور مير»، والثانى فى المقابر البريطانية، القريبة من مدينة «بايو»، وجرى الاحتفال الثالث على شاطئ «أوماها»، الذى دارت فيه أعنف معارك «عملية الإنزال»، التى جرت فى ٦ يونيو ١٩٤٤، وتزعم الولايات المتحدة وحلفاؤها أنها هى التى حررت أوروبا وأنهت الحرب العالمية الثانية!

عملية الإنزال البرمائى الأكبر فى التاريخ، وقت حدوثها، لم تكن هى المعركة الحاسمة، التى قادت إلى انتصار الحلفاء، بل كان هدفها الأساسى، حسب غالبية المؤرخين، هو فتح جبهة جديدة ضد الألمان وقوات المحور، لتخفيف الضغط العسكرى عن الجبهة الروسية، التى شهدت أكبر المعارك وأضخم الخسائر البشرية، استجابة لطلب وجهه الزعيم السوفيتى جوزيف ستالين إلى الرئيس الأمريكى فرانكلين روزفلت ورئيس الوزراء البريطانى وينستون تشرشل، فى مؤتمر عقده الحلفاء، سنة ١٩٤٣، بالعاصمة الإيرانية طهران. وتكفى الإشارة، مثلًا، إلى أن عملية الإنزال شارك فيها حوالى ١٥٠ ألف جندى، مقابل أكثر من مليون جندى من الجيش السوفيتى، شاركوا فى معركة «كورسك»، التى حدثت بين ٥ يوليو و٢٣ أغسطس ١٩٤٣، واستنزفت قدرات الألمان، ومكَّنت الروس من الزحف إلى برلين، وحددَّت، فعلًا، مسارات ونتائج الحرب.

مع ذلك، لم يكن غريبًا أن يتجاهل الرئيس الأمريكى جو بايدن، كغالبية أسلافه، دور الاتحاد السوفيتى، الذى دخل الحرب سنة ١٩٤١، وأسهم بدور كبير، أو بالدور الأكبر، فى تحقيق النصر. كما لم يكن غريبًا، أيضًا، أو مفاجئًا، أن تتهمه الخارجية الروسية بتحريف التاريخ، وأن تشير، فى حسابها على شبكة «تليجرام»، إلى أن «كل رؤساء الولايات المتحدة المعاصرين، تقريبًا، يعانون من متلازمة تحريف التاريخ». غير أن ما كان غريبًا ومفاجئًا وطريفًا هو اتهام المعارضة الفرنسية للرئيس إيمانويل ماكرون باستغلال تلك الاحتفالات لدعم، أو إنقاذ، حزبه فى انتخابات البرلمان الأوروبى، المقرر إجراؤها فى فرنسا غدًا الأحد.

الاحتفالات بالذكرى السبعين لـ«إنزال نورماندى»، التى جرت منذ عشر سنوات، شارك فيها الرئيس الأمريكى السابق، باراك أوباما، وألقى خطابًا مؤثرًا، أمام المقابر الأمريكية، أشاد فيه بالرجال والنساء، الذين قاتلوا «لتغيير مجرى التاريخ والإنسانية». أما الرئيس الأمريكى الحالى، جو بايدن، فوجد الاحتفالات بالذكرى الثمانين فرصة لتوجيه رسائل إلى الداخل الأمريكى، وأخرى إلى الدول الحليفة أو التابعة، بشأن موقف إدارته من الحرب الدائرة فى أوكرانيا. كما حاول استغلال الحدث، أيضًا، فى المعركة الانتخابية، التى يخوضها للفوز بولاية ثانية، بقوله إن «الانعزالية لم تكن الحلّ قبل ٨٠ سنة، وهى ليست الحل اليوم»، فى هجوم ضمنى على شعار «أمريكا أولًا»، الذى تبناه، ولا يزال، خصمه، أو منافسه، الرئيس السابق دونالد ترامب.

ضمنيًا، أيضًا، وجّه «بايدن» رسالة للرئيس الروسى، الذى وصفه بـ«الطاغية العازم على الهيمنة»، قال فيها إن حلف شمال الأطلسى «أكثر اتحادًا اليوم من أى وقت مضى وأكثر استعدادًا للحفاظ على السلام». وتعهّد بايدن بأن الولايات المتحدة فى عهده «لن تتخلى» عن أوكرانيا، لأنها إن فعلت «فلن ينتهى الأمر عند هذا الحد»، زاعمًا أن «جيران أوكرانيا سيكونون مهددين، وأوروبا بأكملها ستكون مهددة». والشىء نفسه، فعله تشارلز الثالث، ملك بريطانيا، وجاستن ترودو، رئيس الوزراء الكندى، و... و... والرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، الذى خصص جزءًا من خطابه، فى الاحتفال الدولى، لتأكيد استمرار الدعم الغربى لأوكرانيا. 

.. وتبقى الإشارة إلى أن عملية «إنزال نورماندى» قادها الجنرال دوايت إيزنهاور، الذى كان قائدًا عامًا فى جيش الولايات المتحدة، وقائدًا أعلى لقوات الحلفاء فى أوروبا، والذى صار، لاحقًا، أول قائد أعلى لحلف شمال الأطلسى «الناتو»، ثم الرئيس الأمريكى الرابع والثلاثين. وقد تكون الإشارة مهمة، أيضًا، إلى أن الولايات المتحدة تمكَّنت، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، من وضع أوروبا الغربية، والشرقية لاحقًا، تحت سيطرتها، وأغرقتها، ولا تزال، فى أزمات عديدة، أوصلتها إلى حالة الجمود التى نراها عليها الآن.