هرم سيتى.. الخرسانة تهزم الفن
منذ أيام قليلة تفجرت أزمة بين عدد من الفنانين والرسامين وإدارة إحدى شركات العقارات.. حول مساحة من الأرض تملكها الدولة بالأساس وحصلت عليها الشركة لبناء مشروع إسكان الشباب فى أكتوبر.. وقتها.. بالتحديد فى عام ٢٠٠٧ أى منذ ما يزيد على ١٥سنة.. أعلنت الشركة عن رغبتها فى إنشاء مشروع ستديوهات صغيرة للفنانين وأطلقت على مشروعها اسم «حى الفنانين».. كانت الفكرة التى عرضتها الشركة التى يملكها الملياردير سميح ساويرس هى خلق مساحة جمالية وسط ذلك المحيط الخرسانى.. فكرة عظيمة ولا شك.. وقد عرضت الفكرة على وزارة الثقافة ونقابة الفنانين التشكيليين.. ورحبت كلتاهما بالفكرة والمشروع.. وتم توقيع بروتوكول.. تسلم بمقتضاه ١٥٠فنانًا تلك الاستديوهات فى مقابل إيجارها ورسوم خدماتها.. كان المكان مهجورًا.. لا يسكن بجواره سوى المطاريد.. والمشردين.. وصحراء قاحلة.. وفى سنوات حوّله الفنانون إلى جنة من الألوان.. تحول كل مرسم صغير إلى بقعة ضوء ووهج.. فى ظلام حى حدائق أكتوبر الذى لم يكن موجودًا من الأصل.. حياة حافلة بالألوان والمشاريع الفنية والأحلام.
بعد كل تلك السنوات.. وبعد الزحف العمرانى الرهيب.. وبعد أن دخلت الدولة بكل قوتها لتطوير المدينة وما حولها.. وقرب افتتاح خط المونوريل والمتحف الكبير.. بعد أن أصبحت هناك حياة جديدة فى هذه المدينة وأصبحت الأرض لها قيمة.. وارتفع سعر المتر إلى أرقام غير مسبوقة.. طمعت الشركة فى تلك الأمتار التى سبق أن منحتها للفنانين.. وبعضهم كان قد اشترى مرسمه بالفعل.. وعددهم ٣٥ فنانًا تقريبًا.
الشركة التى رأت المولات والممشى التجارى والسياحى بجوار هرم سيتى عينها زاغت على مشروع حى الفنانين.. ونسيت أى اتفاقات أو بروتوكولات سابقة وقعتها مع وزارة الثقافة.. مع الدولة يعنى التى هى صاحبة الأرض بالأساس.. وراحت تبحث فى الدفاتر القديمة عن طريقة تطرد بها هؤلاء الممسوسين بكلام فارغ زى الفن والحداثة وسحر الألوان وما شابه.. وعلى حين غرة- كما يقولون- وجد الفنانون أنفسهم مهددين بالطرد وإلقاء ألوانهم وتماثيلهم فى الطريق العام.. استغاثوا.. تواصلوا مع نواب البرلمان فتقدمت واحدة من أعضائه بطلب إحاطة عاجل.. اشتكوا للشركة.. التى تغير اسمها وعضوها المنتدب وعرضوا حلولًا، من بينها شراء مراسمهم، ولكن بالأسعار التى اشترى بها بعضهم وقت الإنشاء.. عرضوا مشاركة الشركة مجانًا فى تطوير مشاريعها بصريًا.. أشياء كثيرة حاولوا بها إيقاف معاول الهدم.. إيقاف جرار الخرسانة القبيح الذى يزحف على جسد مدينتهم.. ولا مجيب حتى الآن.
لا أنكر إعجابى بمشروعات وتجربة آل ساويرس فى الجونة وغيرها.. وبعضها ارتبط اسمه بالفن والثقافة والفنانين.. مهرجان الجونة على سبيل المثال.. ورغم كونه مهرجانًا دعائيًا تستفيد منه مدينتهم لترويج عماراتها وفللها وقصورها.. لكنه فى ظنى استغلال حسن لا ضرر فيه.. فلماذا تناقض الشركة الآن نفسها وأقوال أصحابها السابقة عن الفن؟.. وعن دور رجال الأعمال فى دعمه وعن السياحة الثقافية والتنمية وكل تلك الكلمات الكبرى أين ذهبت؟.. أين ذهبت تغريداتهم التى لا تتوقف ليل نهار على مواقع التواصل بداعٍ ودون؟.. على كل حال لا أنتظر وأظن أن أصحاب المشكلة أنفسهم من الفنانين المحاصرين بإنذارات الإخلاء ينتظرون جوابًا من هؤلاء.. لكن ما ننتظره هو تدخل وزارة الإسكان صاحبة الأرض.. ووزارة الثقافة التى جاءت بفنانيها من كل حتة فى مصر وأقنعتهم بالمشروع وضمنت بتوقيع بروتوكولها مع الشركة وجود هؤلاء الفنانين فى مراسمهم التى شيدوها بعقولهم قبل أناملهم.. فهل تدخل الحكومة التى تعيد تخطيط مدننا.. وتعيد بناء هويتنا البصرية وتفعل المستحيل للحفاظ على قوانا الناعمة.. وتدعم فنانيها فى مواجهة طغيان الخرسانة الكالحة.. وطمع أصحاب المال.. أم أن فترة الريبة التى نعيشها حتى يفرغ د. مصطفى مدبولى من تشكيل حكومة جديدة ستعتبرها الشركة فرصة لبعثرة أحلام ومقدرات هؤلاء الفنانين فى الريح؟