بين واشنطن وتل أبيب.. اليوم التالي والرصيف العائم وأشياء أخرى
لا تزال رحى المعركة الشرسة بين فصائل المقاومة الفلسطينية وجيش الاحتلال الإسرائيلي دائرة على بعد أمتار من حدودنا الشرقية، بعد تجاهل نتنياهو التام لكافة الاتفاقيات الثنائية والدولية.
فى الوقت الذى يبذل فيه الوسطاء جهودًا حثيثة من أجل التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار، وإتمام صفقة يتم بموجبها الإفراج عن محتجزين إسرائيليين مقابل أسرى فلسطينيين، يصر نتنياهو على تخريب تلك الجهود، والسير إلى حافة الهاوية.
ولأن استمرار الحرب هو طوق النجاة الوحيد لنتنياهو الذي يواجه اتهامات دولية وداخلية عنيفة تضع مستقبله السياسي على المحك، كان من الطبيعى أن يستمر رئيس حكومة الاحتلال في إجراءاته التصعيدية، ويتجاوز كل الخطوط الحمراء لإطالة أمد الصراع بغرض تأجيل محاسبته حتى لو كانت النتيجة وضع المنطقة بأكملها على فوهة بركان قد ينفجر في أي لحظة.
موافقة الفصائل الفلسطينية على المقترح المصري وضع نتنياهو وحكومته المتطرفة في الزاوية، فكان ضروريا أن يهرب للأمام بتصعيد العمليات العسكرية في رفح الفلسطينيية لخلق موقف تفاوضي جديد.
التصعيد الذي تنتهجه إسرائيل في رفح الفلسطينية هو مقامرة غير مأمونة العواقب من شأنها تهديد الأمن والسلم الدوليين حال اتساع رقعة الصراع وتعدد جبهاته.
من حفر حفرة وقع فيها
تداعيات هذا التصعيد انعكست على الوضع الداخلي الإسرائيلي نفسه حيث تسببت الطريقة التي تدير بها الحكومة الحرب، الخلافات بين نتنياهو ومكونات التحالف الحاكم، وعلى إثر ذلك تصاعدت التوترات بين نتنياهو وعضو مجلس الحرب الإسرائيلي بيني جانتس، حيث طالب الأخير بالتحقيق في إخفاقات السابع من أكتوبر، زهدد بالانسحاب من الحكومة بحلول 8 يونيو المقبل، إذا لم يوضح رئيس الوزراء بالتفصيل خطة اليوم التالي للحرب على غزة.
جانتس الذي يتزعم حزب الوحدة الوطنية قال إن جميع الأحداث التي سبقت الحرب سيتم التحقيق فيها في إطار لجنة التحقيق الحكومية، بالإضافة إلى اتخاذ القرار على المستويين السياسي والعسكري، والإجراءات خلال فترة الحرب نفسها. تعهدات اعتبرها مراقبون خطابا انتخابيا مبكرا يستعد به جانتس حال الانسحاب من الحكومة والدعوة إلى انتخابات مبكرة لللإطاحة بنتنياهو من رئاسة الوزراء.
الخبراء يعتبرون أن الخلاف الحادث حاليا بين نتنياهو ورجل الولايات المتحدة في إسرائيل بيني جانتس، إنما هو في حقيقته خلاف بين واشنطن وتل أبيب حول طريقة إدارة المعركة مع تجنب الإدانات الدولية نظرا للإفراط في استخدام القوة ضد الفلسطينيين، وهو ما يشير لأمرين، الأول اقتراب نهاية نتنياهو، والثاني إطالة أمد الحرب بعد وصول جانتس لكن بالشروط الأمريكية وذلك حتى صدور تعليمات أخرى.
السياسة الأمريكية تجاه غزة.. أسمع كلامك أصدقك
السياسة الأمريكية تجاه غزة تحمل تناقضات فاضحة تتجلى في كيفية تعامل واشنطن مع أطراف الصراع منذ اليوم الأول.
تتبع واشنطن نهجًا مزدوجا في التعامل مع الأزمة، فما بين ادعاء الرغبة في وقف الحرب والانخراط في عملية الوساطة، تغض الطرف عن جرائم إسرائيل بحق الفلسطينيين بل في بعض الأحيان هي من توعز إلى الكيان الصهيوني لمواصلة عملياته العسكرية من أجل تعديل المواقف التفاوضية بين.
من أبرز مظاهر السياسة الأمريكية المزدوجة تجاه غزة هو ضمانها المستمر لتفوق إسرائيل العسكري. تتجسد هذه السياسة في تقديم الدعم العسكري والاقتصادي والتكنولوجي لدولة الاحتلال بما يعزز قدرتها على مواجهة أي تهديدات محتملة من غزة أو غيرها. هذا الدعم يعكس التزام واشنطن بأمن إسرائيل كأولوية استراتيجية، بغض النظر عن التداعيات الإنسانية والسياسية على الفلسطينيين.
الانحياز الأمريكي السافر للكيان الصهيوني كاد أن يفقد الولايات المتحدة موقعها القيادي في الشرق الأوسط وهي التي تعتبر المنطقة أحد محاور الارتكاز الرئيسية في هيمنتها على خطوط التجارة ومصادر إمدادات الطاقة بالعالم.
إلى جانب الحرص الأمريكي الشديد للحفاظ على علاقة التبعية يأتي الهدف الأمريكي الاستراتيجي لقطع الطريق على أي لاعب دولي وبالأخص غريمتيها التقليديتين الصين وروسيا من الدخول إلى إقليم الشرق الأوسط عبر أي نافذة.
ادعاء الولايات المتحدة رعايتها للجهود الدولية حول وقف الحرب وتحقيق السلام، يفضحه التناقض الفج في سياستها تجاه قطاع غزة، حيث تعلن على الملأ دعمها لجهود الوساطة والتفاوض وحل الدولتين، بينما تساهم في تعقيد العملية التفاوضية بين الفلسطينيين والإسرائيليين خلف الكواليس. تظل واشنطن تتحدث عن السلام بينما تستمر في تقديم الدعم لإسرائيل، وكأن المثل الشعبي القائل "أسمع كلامك أصدقك.. أشوف أمورك أستعجب" قد قيل أساسا في صانع السياسة الأمريكي.
بعد أن ضاقت دول العالم ذرعا بالجرائم الإسرائيلية، ومع تزايد موجة الاعترافات الدولية بالدولة الفلسطينية، وجدت واشنطن نفسها أمام تحدٍ جديد يتطلب منها استحداث مناورات جديدة للحفاظ على زمام المبادرة في يدها، خوفا من أن تجد نفسها تدريجيا معزولة دوليا عن القضية الفلسطينية.
المندوب السامي الأمريكي
آخر المناورات الأمريكية المستحدثة، ما نشرته مجلة "بوليتيكو" حول نية واشنطن تعيين مستشار مدني في غزة. وفقًا للمصادر الأمريكية، فإن هذا المستشار سيكون له دور في العمل مع قوة فلسطينية أو عربية لضمان الأمن والاستقرار بعد انتهاء الصراع بين إسرائيل وحماس.
هذه الصيغة تعيد إلى الأذهان تجربة سيء الذكر "بول بريمر" كحاكم إداري للعراق بعد الغزو الأمريكي 2003، ولهذا استقرت دوائر الحكم في الولايات المتحدة أن يعمل هذا المستشار من خارج قطاع غزة لتجنب إعطائه صفة "الحاكم المنتدب"، أو المندوب السامي.
لم يستقر المسؤولون الأمريكيون على حجم السلطة الرسمية التي سيتمتّع بها هذا المستشار ولا حدود صلاحياته ومسؤولياته، ولا أي الملفات التي سيتولى إدارتها داخل الأراضي المحتلة في ظل الإدراك الأمريكي بأن سياسات كهذه هي التي سلمت العراق على المفتاح لإيران.
تعيين مستشار أمريكي لغزة وإقامة رصيف عائم على سواحلها يفتح باب الأسئلة واسعا عن مدى الدور الأمريكي في المنطقة خلال الفترة المقبلة.
الرصيف العائم على شاطئ غزة هو جزء من استراتيجية أمريكية أوسع تهدف إلى تحقيق أهداف سياسية واقتصادية. تحت ستار نقل المساعدات الإنسانية، يشكل هذا الرصيف رأس جسر لدور أمريكي سياسي مباشر في إدارة الأراضي الفلسطينية. علاوة على ذلك، يساهم الرصيف في تعزيز السيطرة الأمريكية على الموارد الاقتصادية في غزة، بما في ذلك اكتشافات الغاز الكبيرة، ويعزز دورها في المشروع التجاري من الهند إلى الشرق الأوسط والخليج العربي، في مواجهة طريق الحرير الصيني.
الملخص أن السياسة الأمريكية تجاه غزة تتسم في مجملها بتناقضات عدة ومناورات معقدة، فهي تهدف في ظاهرها إلى تحقيق السلام والاستقرار، لكنها في جوهرها تسعى للحفاظ على التفوق الإسرائيلي وتأمين المصالح الأمريكية. بيد أن تحقيق سلام حقيقي ومستدام يتطلب تغييرًا جذريًا في هذه السياسة، بعيدًا عن التناقضات والمناورات، وباتجاه حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية.