على جثة نتنياهو
كعادتها دائما، تحاول إسرائيل إلقاء مسئولية جرائمها على غيرها. التنصل من الاتهامات ديدن صهيوني ثابت منذ نشأة الحركة مع نهاية القرن التاسع عشر وحتى الحرب الإجرامية الأخيرة على قطاع غزة.
في تصريح عجائبي لوزير الخارجية الصهيوني يسرائيل كاتس، قال إن مصر تتحمل مسئولية عرقلة وصول المساعدات إلى قطاع غزة بسبب إغلاق معبر رفح، للالتفاف على حقيقة أن إغلاق المعبر ومنع وصول المساعدات جاء بسبب سيطرة قوات الاحتلال على الجانب الفلسطيني من المعبر.
هذه ليست الكذبة الأولى لقيادات الاحتلال الصهيوني خلال الحرب على قطاع غزة الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية وتهجير أهالي غزة إلى دول الجوار. بدأوا مسلسل الكذب والتلفيق بأن مقاتلي حماس اغتصبوا النساء وقتلوا الأطفال، وواصلوا بأن مصر والأردن ترفضان التعاون في إدخال المساعدات.
الغريب أن هذه التصريحات تجد طريقها فورا إلى البيت الأبيض ويرددها بايدن دون مراجعة، وكأنها تتم بالاتفاق المسبق بين الجانبين.
هذه الحرب كشفت عن هوية المدير الحقيقي للعمليات الإسرائيلية في قطاع غزة منذ ما يربو على 7 أشهر. هو نفس الطرف الذي يرفض استخدام تأثيره على الكيان الصهيوني لوقف الحرب، ودائما ما يعطيهم الضوء الأخضر لاستئناف جرائمهم ويمدهم بكل احتياجاتهم من الأسلحة المتطورة اللازمة لإبادة الفلسطينيين بصرف النظر عن المسرحيات الإعلامية التي يصدرها للرأي العام العالمي حول تعليق إرسال بعض صفقات الأسلحة.
قولا واحدا، الولايات المتحدة هي التي تقف وراء حرب غزة حتى لو كان المنفذ إسرائيليا. واشنطن هي التي تغض الطرف عن جرائم الصهاينة وتمارس ضغوطا على مختلف الأطراف لمنع التصدي لغطرسة إسرائيل.
التقارير الصحفية وشهادات المراقبين تتحدث مؤخرا عن خلافات بين الإدارة الأمريكية والحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة في ما يتعلق بالحرب على قطاع غزة، فما كان همسا خلف الأبواب المغلقة تتناقله الآن وسائل الإعلام المختلفة بوصفه تحضيرا للحكومة الإسرائيلية المقبلة.
في الوقت ذاته، لا يمكن اعتبار الخلاف القائم حاليا بين واشنطن وتل أبيب، أو بالأحرى بين بايدن ونتنياهو أكبر من كونه خلافا في التكتيك لا في الاستراتيجية. خلاف حول طريقة إدارة الحرب وليس حول الحرب نفسها، فواشنطن لا تزال متمترسة خلف إسرائيل بكل أشكال الإمداد في عدوانها على غزة.
الغضب الأمريكي على نتنياهو يضيف بعُدا جديدا لأزمة رئيس الوزراء الإسرائيلي ويعجل بنهايته. احتجاجات الداخل الإسرائيلي نظرا لفشل حكومته في استعادة المحتجزين طوال هذه المدة، والانقسامات السياسية الحادة داخل الائتلاف الحاكم كلها عوامل تتضافر لترسم نهاية غير سعيدة للرجل الذي كتب طوفان الأقصى شهادة وفاته في السابع من أكتوبر.
بات واضحا أن إدارة بايدن "تتطلع إلى ما بعد نتنياهو لتحقيق أهدافها في المنطقة"، وتحاول وضع الأساس لما هو قادم مع قادة آخرين تحضيرا لتشكيل حكومة ما بعد نتنياهو.
في هذا السياق، يبرز اسم وزير الدفاع الإسرائيلي السابق بيني جانتس لخلافة نتنياهو، نظرا لشعبيته داخل إسرائيل.
انضم جانتس إلى "المجلس الأمني" الذي انبثق عن حكومة الطوارئ التي تشكلت لإدارة الحرب على غزة. ويحظى باحترام واسع في أوساط السياسة الإسرائيلية كما تصفه الصحافة العبرية بـ"الوسطي".
جانتس الذي بدأ مساره المهني جنديا في لواء المظليين بالجيش الإسرائيلي عام 1977، كانت أولى مهامه الرسمية أن يكون جزءا من الفريق الأمني المسئول عن تأمين زيارة الرئيس المصري الراحل أنور السادات إلى إسرائيل، وتربطه علاقات قوية بدوائر السياسة الأمريكية حيث انتقل إلى الولايات المتحدة عام 2007، لشغل منصب الملحق العسكري هناك، وفي عام 2009 أصبح نائب رئيس الأركان العامة للجيش الإسرائيلي، وخلال هذه الفترة بدأ بتنفيذ "خطة تيفن" لتطوير القوات المسلحة الإسرائيلية بالتعاون مع الأمريكان.
هو ككل قادة الكيان الصهيوني العسكريين، لديه سجل حافل بجرائم الحرب في لبنان والأراضي المحتلة، وفي غزة تحديدا، وربما لهذا السبب على وجه الدقة تخطط واشنطن لاستبداله بنتنياهو نظرا لخبرته الكبيرة في إدارة الحروب مع العرب.
عقب حل الكنيست في يونيو 2022 لإجراء انتخابات مبكرة، أعلن جانتس وجدعون ساعر في أغسطس 2022 اندماج حزبي "أزرق أبيض" و"الأمل الجديد"، وعزمهما الترشح بقائمة مشتركة في انتخابات نوفمبر من العام نفسه، وانضم لهما رئيس الأركان السابق جادي آيزنكوت، وسُمي التكتل الجديد باسم "حزب الوحدة الوطنية"، لكن الفوز كان من نصيب نتنياهو وحلفائه في هذه الانتخابات.
وفي 12 أكتوبر 2023 أعلن نتنياهو تشكيل حكومة طوارئ عقب عملية "طوفان الأقصى"، وانضم جانتس إلى "المجلس الأمني" الذي يدير الحرب، والذي انبثق عن حكومة الطوارئ، وقال إنه ينظر بإيجابية للانضمام إلى حكومة تتركز مهامها حول الوضع الأمني، وتعهد ببذل كل ما يلزم لإعادة الأسرى الإسرائيليين لدى حركة "حماس".
الاهتمام الأمريكي بـ"جانتس" والحرص على توليه رئاسة الحكومة الإسرائيلية خلفا لنتنياهو لا يقتصر على كونه شخصية توافقية، لكن يأتي أيضا لأنه يحرص على وحدة إسرائيل الداخلية، التي ضربتها "الانقسامات"، وإيمانه بضرورة تعزيز قوة الجيش الإسرائيلي في مواجهة التحديات، وهو ما يفسر إلى أي حد تهتم الولايات المتحدة الأمريكية ليس بأمن إسرائيل فحسب، بل باستقرارها ووحدتها وقوتها في مواجهة المحيط العربي، ويبدو أن ذلك سيتم على جثة نتنياهو.