على هامش ملتقى القاهرة الأدبي
الكاتب الفلسطيني محمود جودة أبو بغداد: المدن هي حكايتنا المستمرة (حوار)
شارك الكاتب الفلسطيني محمود جودة أبو بغداد، في فعاليات النسخة السادسة لمهرجان القاهرة الأدبي، والتي اختتمت فعالياتها اليوم بقبة الغوري تحت شعار “تمثلات المدينة والذاكرة في الأدب”.
وحول محور المهرجان وذاكرة المكان والمدينة في أعماله الأدبية وبمن تأثر من الكتاب المصريين، حاورت “الدستور” “أبو بغداد” الذي صدر له من قبل رواية “حديقة السيقان”، فضلا عن مسرحية “الشاطئ الآخر”، والمجموعة القصصية “غزة اليتيمة”، وكتاب “رسائل إلي بغداد” وغيرها.
الحرب تترك آثارها على المدن كما تتركه على وجوه سكانها
إلى أي مدى تقاطعت الكتابة بالذاكرة بالمكان في أعمالك؟
للمكان تأثير كبير في اختيار سياق المادة المكتوبة، فهو الأثر الذي يَلمسه القارئ ويندمج في تفاصيله، ولطالما كان المكان أحد أهم الجوانب التي أركز عليها في أغلب القصص التي أكتبها، فلطالما فقد الفلسطيني "مكانه" الفيزيائي في سياقات النضال المختلفة حتى غدى المنفى هو بيته الدائم، المنفى هنا لا يقتصر على المكان فقط بل انتقل إلى الذاكرة، فذاكرتنا مع البيوت والأصدقاء والمدن أضحت ذاكرة منفية كما حدث معنا في غزة خلال هذا العدوان.
إننا نعيش الآن على الذاكرة على تفاصيل صغيرة كنا نصنعها دون وعي منا بأنها سوف تصبح ذكريات غير قابلة للاسترجاع، الدراج في العادة أن عُمر الإنسان قصير جدًا مقارنة بعمر الأماكن التي تتحول مع مرور الوقت إلى آثار، وغير المتخيل أبدًا أن نصبح ونحن في هذه الأعمار الصغيرة نحمل ذكريات لأماكن كان من المفترض أن تحتفظ بأثرنا ولكن انقلبت الآية وها نحن نحمل ذكرياتها بعدما تم تدميرها كليًا، فلولا الصور الفوتوغرافية لغزة ما قبل العدوان لن يصدق أحد روايتنا عن تلك المدينة الجميلة.
كيف تعيد المدن تشكيل حكاياتنا؟
المدن هي حكايتنا المستمرة، لا أعلم لماذا لا تترك المساحة للمدن كي تتحدث عن نفسها، عن طموحها وأحلامها وألوان الجدران فيها ورغبتها في الاستراحة أو في الحرب أو في الانكشاف، فالمدن لا ترغب كثيرًا في رثائها فهي تشعر بالخجل، لهذا كانت غزة تخفي دمعتها، وتتحامل على جرحها وتتجمل بالابتسامات أمام الغرباء، لأنها تعلم أن كل الجراح تشفى، إلا جُرح الكرامة لا يندمل.
لهذا تعمدت غـزة أن تظهر بهذا الثوب دومًا، واختارت شعار بلديتها ليكون طائر العنقاء الذي يبعث من رماده كلما مات، لأنها تكره نظرات الشفقة، فالمدن كما النساء تمامًا، تتجمل بأقصى ما لديها من طاقة، رغم الخذلان الذي يملأ شقوق الروح، لأنها على يقين أن الأمل أبقى من الدموع، وإن طال الأنين، لكن الآن مدينتنا في انكشاف كبير، تُكابر بشكل لا يطاق وأملي الوحيد هو أن تبقى نساء المدينة قادرات على الفرح لأن المدن تموت إذا كفت فيها النساء عن الضحك.
ماذا تعني لك الجوائز؟
لقد حاول الاحتلال حصر روايتنا وجميع أعمالنا ككتاب ومثقفين ومسرحيين وأغلب صنوف الإبداع في المجالات المختلفة بالمعاناة، وهذا ظلم غير مرئي فالطاقة التي نستهلكها في الرثاء والغضب وتوثيق جرائم العدو تستنزف مشاعرنا وأقلامنا وطموحاتنا بأن نكتب عن الحب والخير والجمال والحرية، لهذا كان مسرحية الشاطئ الأخر خروج من هذه الدائرة المغلقة ناحية فضاء العالم التشاركي حيث ناقضت المسرحية المشتركات الحياتية مع أهالي المدن الساحلية التي تطل على البحر المتوسط ونجحنا في ذلك وتم عرض المسرحية في مدن أوروبية وعربية عديدة حتى شاركت في مسرح الصحراء الدولية بولاية أدرار في الجزائر وفازت مناصفة مع العراق بأفضل نص مسرحي في المهرجان.
الجوائز شيء جميل ومشجع جدًا للكتاب، لكن الجائزة الأكبر هي ما نشاهده في عيون القراء من أعجاب ولطف ومحبة، فعنما يقول لي أحد القراء إنني وفقت في كتابة ما وعبرت عما يجول في خاطره ولامست قلبه أكون في سعادة كبيرة بأنني كنت لسان من لا يستطيعون الكلام، وموانع الكلام في بلادنا كبيرة وخطيرة، فطوبى لمن حدم حجر في هذا الجدار الكبير.
هل تحفظ الأعمال الأدبية توثيق للأمكنة والمدينة تحديدا؟
الحرب تترك آثارها على المدن كما تتركه على وجوه سكانها وأطرافهم وأحلامهم التي تُبتر، أرفض تمامًا أن يتم التعامل مع المدن على أنها مباني صماء، بل هي كائن خاصة لو كانت هذه المدينة تطل على البحر ولها ميناء هو بمثابة لسانها الناطق وأسلوبها في التعبير عن ذاتها ومشاركة الآخرين حياتهم، في زمنٍ مستعمل سابق، كنا نرثي إنسان، حيوان أليف، ذكرى جميلة، حديقة جلسنا فيها، شارع يحفظ خطواتنا، ثم صرنا نرثي أسرة، ثم منزل، ثم حي، أما الآن فإننا نرثي مدينة كاملة.
لقد كانت المدن هي محور كتاباتي ففي المجموعة القصصية غزة اليتيمة الصادرة عن دار الرمال بقبرص عام 2015 تحدثت فيها عن قصص المدينة التي لم تأتِ على تصويرها الكاميرات الصحافية، تلك التفاصيل التي تهم العشاق والمغتربين وأصحاب الحياة والشوارع العادية، وفي العمل الثاني كتاب رسائل إلى بغداد وهو كتاب رسائل صدر عام 2018 عن نفس الدار السابق ذكرها، مُهدى إلى ابنتي بغداد في عامها الأول، لقد حاولت في هذا الكتاب أن أصنع ذاكرة حيّة لبغداد ولجيل كامل عن مدينتهم من الناحية العمرانية والاجتماعية والسياسية، لقد كان تأريخ أدبي لمرحلة مهمة في تاريخ مدينة غزة، ذلك التاريخ الذي تم تدميره قبل أن يصبح تريخًا بالمعني الزماني للكلمة، وربما كان هدفي إسعاد بغداد بذكريات تتجول فيها عندما تصبح كهلة كبيرة، لمنها ستكبر على فقد مضاعف وهي ما زالت بعمر ا لثماني سنوات، لا أعلم أي وجع تسببت فيه لبغداد وجيلها في تأليف هذا الكتاب.
أما الكتاب الثالث فهو رواية بعنوان حديثة السيقان صدرت عن مكتبة كل شيء بحيفا، تتحدث عن المدينة التي أصبحت تسير على عكاكيز بسبب أعداد المصابين مبتوري الأطراف بسبب آلة القنص الاسرائيلية التي استهدفت المشاركين في مسيرات العودة التي استمرت لعامين 2018 -2020 هذه الرواية التي أتعبتني كثيرًا جراء المعاناة التي تركت أثرها على نفسي وأعصابي، فهي رواية حقيقة الوجع، وقد صدرت ترجمتها هذا الشهر باللغة الهولندية عن دار يورجن ماس بهولندا.
بين الرواية والقصة والمسرح أيهما الأقرب إليك ولماذا؟
الثلاثة هم في الحقيقة مخطوطة واحدة لكنها تختلف في الحجم والأحداث، أميل إلى القصة أكثر أشعر أنها أكثر الطرق لكي يضع فيها الكاتب رؤيته في شكل متناسق ومكثف وقصير في نفس الوقت، لكن الرواية حياة كاملة في كتاب صغير، الرواية مؤنسة أكثر والمسرح هو باعث الروح والحركة في السرد القصصي والروائي في نفس الوقت.
ممن تستلهم عوالملك الإبداعية؟
الاستلهام فعل مستمر لا ينحصر في أشياء معينة، كل ما يحيط بي هو ملهم بالنسبة لي: بشر وحجر وشجر، لكن يبقى الشارع هو الملهم الأول، الشارع بالمفهوم الممتد المليء بالناس والتجارب والأخطاء والذنوب والندم، يمكن أن نختصر العوالم كلها في المُدن وفي التخيل.
من الكتاب المصريين المعاصرين والراحلين قرأت له وأيهما أثر عليك وعلي أعمالك؟
نحن في قطاع غزة درسنا المنهاج المصري من الصف الأول حتى الثانوية العامة والكثير من المساقات الجامعية أيضًا، هوانا مصري بامتياز، مصر بالنسبة لنا هي الدنيا كلها، حتى القبور تزاحمنا فيها حين جد الجد، فالقاهرة هي غزة الصغيرة لنا والعكس صحيح، والناس في غزة مصريو الهوى والأغنيات وقراءات القرآن وتسابيح الكنائس، والتفكير والمزاج، مصر بالنسبة لأهل غزة ليست دولة من شعب وجغرافيا وحدود وعلم، هذه مواصفات للدّول، ومصر بالنسبة لنا شيء آخر يشبه القداسة، لهذا تعلقت كثيرًا بتاريخها وثوراتها، وكتابها مثل أمل دنقل هذا الجنوبي الحزين الذي تفتح عقلي على نصوصه، ونجيب محفوظ بسرديته التفصيلية التي تجعل من النص مشهد متحرك، ونجيب سرور الملهم في غضبه ورضاه وتجربته، الأستاذ محمد حسنين هيكل، وصلاح عبد الصبور وصلاح جاهين، والساخر الجاد محمود السعدني، وغيرهم ممن كان لي حظ كبير في ان أقرأ أعمالهم في بداية كتاباتي.