عن الطوفان الذي أغرق الاحتلال وأنقذ القضية!
في صبيحة السابع من أكتوبر، استيقظ العالم على حدث مدوي أطلق عليه المقاومون اسم "طوفان الأقصى".
بقدر ما كانت العملية مفاجئة وصادمة لمختلف الأطراف على الساحة الدولية، بما فيها بعض فصائل المقاومة الفلسطينية نفسها، كانت ردود الفعل الإسرائيلية والأمريكية والغربية عموما، مفاجئة وصادمة أيضا.
خبراء السياسة على اختلاف توجهاتهم الأيدولوجية، حتى الغربيين منهم، أجمعوا على أن معركة طوفان الأقصى غيّرت وستغير وجه المنطقة، ويبدو أنها خطّت السطر الأول في فصل جديد من تاريخ المنطقة بل والعالم كله، وربما تكون بحسب بعض التقديرات الرصينة، بداية النهاية لأطول وآخر احتلال في التاريخ المعاصر.
فور الاستفاقة من الصدمة، ذهبت إسرائيل إلى أقصى الحدود في ردها، وتوسعت في انتقامها لحفظ ماء الوجه أولا، والحفاظ على الصورة النمطية المأخوذة عن دولة الاحتلال كأكبر القوى العسكرية في المنطقة، ثم للانتقاص من النصر الخاطف الذي حققته المقاومة الفلسطينية بطوفانها ثانيًا، وحتى لا تكون المفاوضات اللاحقة انعكاسا للوضع العسكري على الأرض كما هو العرف ثالثا.
إسرائيل استشعرت خطرا حقيقيا بعد ما تعرضت له من هزة عنيفة، فأخرجت من جعبتها كل النزعات العنصرية التي تحكم رؤيتها للعرب عموما، وأطلقت تياراتها اليمينية المتطرفة تبشر بوجهة النظر الصهيونية بضرورة اقتلاع الفلسطينيين من أراضيهم وتهجيرهم إلى دول الجوار، وأعلنت تلك التيارات التي يمثلها في الحكومة أمثال وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، ووزير المالية بتسئيل سموترتيش، أنه لا سبيل للحفاظ على بقاء إسرائيل، سوى بالتطهير العرقي لكافة الأراضي المحتلة من الفلسطينيين العرب مسلمين كانوا أم مسيحيين.
هكذا وجدت سلطات الاحتلال في "طوفان الأقصى" فرصة لتجديد مشروعها القديم باقتلاع أهل غزة من أرضهم. وبنزعة انتقامية دموية تجاوزت كل اعتبارات القانون والإنسانية، صبت حمم الجحيم على سكان القطاع، وراحت تدمر كل مقومات الحياة حتى تجعل من غزة "المزعجة" مكانا غير صالح للحياة، ومن ثم إجبار أهلها على هجرتها طوعا أو قسرا.
الجموح التدميري الذي يحكم سلوك إسرائيل في حربها على غزة لم يقتصر على استخدام ترسانتها العسكرية المتطورة، ولا على إلقاء القنابل والصواريخ بما فيها المحرمة دوليا، على رؤوس المدنيين العزل من الشيوخ والنساء والأطفال، ولا بقصف المستشفيات والمدارس وأماكن إيواء النازحين، لكنه امتد ليشمل حصارا خانقا ضربته قوات الاحتلال على القطاع الضيق الذي يأوي نحو مليونين ونصف المليون إنسان، وعمدت إلى قطع المياه والوقود ومنع وصول الغذاء والدواء، لتحرم الغزاويين الناجين من قصفها المتواصل من فرصة البقاء أحياء، في أبشع جريمة إبادة جماعية يشهدها التاريخ الحديث، ورغم كل هذا الدمار لم تتمكن "إسرائيل" من تحقيق أي من أهداف عدوانها الدموي الهائل حتى كتابة هذه السطور على الأقل.
ما قبل الطوفان
يعتقد الكثيرون أن طوفان الأقصى بدأ في السابع من أكتوبر، غير أن الحقائق على الأرض تشير إلى أن إرهاصاته بدأت تتشكل في زمن أبعد. بعض المحللين يحددون نطاق الزمن بحروب إسرائيل الأخيرة على غزة أعوام (2008 و2009 و2012 و2014 وآخرها معركة سيف القدس 2022) غير أن القسم الأكبر من الكتابات الأكاديمية والتحليلات الرصينة ترجع بالزمن إلى مراحل الصراع الأولى وإعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948 الذي رافق نكبة العرب الكبرى، وتهجير غالبية الفلسطينيين من الضفة الغربية وأراضي الداخل إلى غزة. هذه التقديرات تذهب أبعد من ذلك باعتبار ما يجري الآن ما هو إلا المرحلة الثانية من خطة إسرائيل بتهجير بقية شعب فلسطين التاريخية نهائيا من أراضيهم، وأن كل المواجهات التالية للنكبة أعوام (1956-1967- 1973) ما كانت سوى محطات في مسار الصراع العربي الإسرائيلي لمنع إسرائيل من تحقيق مخططها القائم على مبدأ "الحدود الآمنة".
ومبدأ الحدود الآمنة الذي أرساه مؤسس الدولة العبرية ديفيد بن جورويون، يقضي بتفريغ كافة تخوم إسرائيل من الكتل البشرية، واحتلالها لضمان عدم وجود أية أنشطة تهدد وجود وبقاء الكيان الدخيل على المنطقة، في ظل العلاقات العدائية التي تربطه بدول المحيط الإقليمي.
وثائق بريطانية أُفرج عنها مؤخرا ونشرتها بي بي سي، أكدت أن إسرائيل وضعت خطة سرية قبل 52 عاما لترحيل الآلاف من فلسطينيي غزة إلى شمال سيناء المصرية، بهدف تفريغ القطاع من سكانه، حيث أنه وبعد احتلال الجيش الإسرائيلي غزة، إلى جانب الضفة الغربية والقدس الشرقية ومرتفعات الجولان السورية، في حرب يونيو عام 1967، أصبح القطاع مصدر إزعاج أمني لإسرائيل، وتحولت مخيمات اللاجئين فيه إلى بؤر مقاومة للاحتلال.
حسب تقديرات البريطانيين، عندما احتلت إسرائيل غزة، كان في القطاع 200 ألف لاجىء، من مناطق فلسطين الأخرى، ترعاهم وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" و150 ألفا آخرين هم سكان القطاع الأصليون الفلسطينيون.
التقارير المفرج عنها كشفت عن أن السفارة البريطانية في تل أبيب رصدت في تلك الأثناء، تحركات إسرائيلية لتهجير آلاف الفلسطينيين إلى العريش التي تقع شمالي شبه جزيرة سيناء المصرية، وتبعد قرابة 54 كليو متر عن حدود غزة مع مصر.
الخطة شملت "النقل القسري" للفلسطينيين إلى مصر أو أراض محتلة أخرى، في محاولة لتخفيف حدة العمليات الفدائية ضد الاحتلال والمشكلات الأمنية التي تواجه سلطة الاحتلال في القطاع. وفي أوائل سبتمبر عام 1971، أبلغت الحكومة الإسرائيلية البريطانيين بوجود خطة سرية لترحيل الفلسطينيين من غزة إلى مناطق أخرى على رأسها مدينة العريش المصرية، وربما هو ما يفسر لماذا تجددت تلك المخططات وظهرت للعلن دون مواربة بعد طوفان الأقصى.
لماذا غزة؟
كان قطاع غزة بسبب مقاومة أهله يمثل صداعا مزمنا في رؤوس قادة إسرائيل، بالشكل الذي عبر عنه للبريطانيين وزير النقل والاتصالات الإسرائيلي آنذاك شيمون بيريس "زعيم حزب العمل ووزير الدفاع والخارجية ورئيس الحكومة ورئيس الدولة في إسرائيل لاحقا"، بأنه "حان الوقت لكي تفعل إسرائيل ما هو أكثر في قطاع غزة وأقل في الضفة الغربية"، وبالطريقة ذاتها التي أفصح بها إسحاق رابين - رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي انخرط في مفاوضات سلام مع العرب واغتاله اليمين المتطرف – عن أمنياته بأنه يود لو استيقظ ذات صباح ووجد غزة قد ابتلعها البحر!
بيريس قال في تصريحاته التي نقلتها الوثائق السرية المفرج عنها إنه "سيتم إعادة توطين حوالي ثلث سكان المخيمات في أماكن أخرى في القطاع أو خارجه"، مؤكدا الاعتقاد الإسرائيلي بأن "هناك حاجة ربما إلى خفض إجمالي عدد السكان بحوالي 100 ألف شخص، في وقت لم يتجاوز العدد الإجمالي للسكان القطاع 200 ألف نسمة، أي أنه كان يرغب في التخلص من نصف عدد السكان حينها.
من بين تفاصيل الخطة القديمة التي أفصح عنها بيريس حينذاك للبريطانيين، نقل حوالي 10 آلاف أسرة إلى الضفة الغربية، وعدد أصغر إلى إسرائيل، غير أنه أقر بأن التهجير إلى الضفة وأراضي إسرائيل ينطوي على مشكلات عملية مثل "التكلفة العالية" مقارنة بنقلهم إلى سيناء.
كانت تقديرات البريطانيين التي طمأنوا بها بيريس أن "معظم المتضررين من الحرب الإسرائيلية "هم في الواقع، راضون بأن يجدوا لأنفسهم سكنا بديلا أفضل، لاسيما إن تم تعويضهم عندما تُزال أكواخهم "منازلهم المتواضعة"، أو توفير شقق سكنية عالية الجودة بناها المصريون في العريش، حيث يمكن أن يكون لديهم إقامة شبه دائمة". كانوا يعتقدون وهمًا أن أي حل دائم لمشكلات قطاع غزة "يجب أن يتضمن إعادة توطين جزء من السكان خارج حدوده الحالية، ولم يدرك البريطانيون وقتها كما لم يفهم الإسرائيليون حتى الآن، أن الفلسطينيين يفضلون العيش بين أطلال منازلهم المهدمة أكثر من الهجرة إلى أي مكان آخر حتى لو كان أكثر رقيا وهدوءا واستقرارا.
السفير البريطاني في إسرائيل إيرنست جون وورد بارنز، الذي ناقش بيريس في خطته، أكد لحكومته في برقية جاءت ضمن الوثائق المفرج عنها، أن إسرائيل تستهدف توطين الفلسطينيين في شمال شبه جزيرة سيناء المصرية، غير أنه قال إن "الحكومة الإسرائيلية تخاطر بمواجهة انتقادات دولية، لكن النتائج العملية أهم بالنسبة لإسرائيل".
بعد انتصار السادس من أكتوبر، ورغم انسحاب إسرائيل من سيناء كلها، على مراحل انتهت كلها يوم 25 أبريل عام 1982، لم تفارق شبه الجزيرة الاستراتيجية خيال الإسرائيليين ويبدو أنها لن تفارقه كـ"حلم يراودهم"، بوصف الوثائق البريطانية التي أكدت أن الإسرائيليين لن يجدوا العوض عن سيناء التي كانت وتظل، منطقة استراتيجية لمخططهم من كل الجوانب، أهمها الجانب الأمني الذي ترتكن إليه تل أبيب في مسعاها لتحييد شبه الجزيرة وحرمان الأعداء العرب سواء في مصر أو فلسطين من استغلالها في الهجوم على إسرائيل، أو في خنقها بمنع وصولها إلى البحر الأحمر".
وزير الدفاع الإسرائيلي في فترة حرب الأعوام الستة موشيه ديان، حين سٌئل ذات مرة عن قاعدة شرم الشيخ البحرية التي أنشأتها إسرائيل بعد حرب 1967 وإمكانية تفكيكها حال أرادت حكومته الانخراط في مفاوضات سلام مع القاهرة، قال إنها أهم من السلام مع مصر.
إلا رفح
أثناء مفاوضات السلام بين مصر وإسرائيل بشأن الانسحاب الكامل من سيناء، طرح بعض الساسة الإسرائيليين، وفي مقدمتهم مناحم بيجن رئيس الوزراء في ذلك الوقت، مبدأ استثناء رفح بجزئيها المصري والفلسطيني من أي اتفاق والاحتفاظ بها كاملة، ولهذا السبب لقيت، المدينة الواقعة في المنطقة الحدودية بين مصر وقطاع غزة، اهتماما بريطانيا في ظل تركيز إسرائيل الأمني عليها، حيث ازدادت أهمية المنطقة بشكل خاص بعد حرب 1973.
كان منطق الصهاينة في الاحتفاظ برفح، وعدم إعادتها إلى مصر يتمثل في عزل قطاع غزة ومنعه من أن يصبح مرة أخرى "خنجرا موجها إلى قلب إسرائيل" على حد ما جاء في المفاوضات السرية بين الإسرائيليين والبريطانيين وكشفته الوثائق لاحقا، ولهذا أنشأت إسرائيل في رفح بعض المستوطنات الريفية ومستوطنة "ياميت" الحضرية بغرض تثبيت الاستيطان وخلق واقع جديد يصعب معه الحديث عن إعادتها إلى العرب.
الوثائق كشفت أيضا عن أن تنازل الإسرائيليين عن رفح جاء نتيجة الضغوط الدولية التي مارستها أطراف عدة على الحكومة الإسرائيلية لإتمام مفاوضات السلام مع مصر 1978 والتي عرفت لاحقا باتفاقية كامب ديفيد.
شكّل تخلي الإسرائيليين - لأول مرة - عن مستوطنات يهودية مثل ياميت في عام 1982، الصدمة الأكبر للداخل الإسرائيلي آنذاك على حد وصف السفير البريطاني في إسرائيل، السير باتريك هاملتون موبرلي في برقيته إلى الحكومة البريطانية.
كان لهذه "الصدمة" سبب اقتصادي حيوي، يضاف إلى الأسباب الأمنية والاستراتيجية الأخرى، حيث كانت حقوق النفط في خليج السويس توفر لإسرائيل ما بين 20% إلى 30% من إجمالي احتياجاتها النفطية".
بعد عامين من استعادة مصر سيناء كاملة، أكد تقرير عسكري بريطاني أن شبه الجزيرة ما زالت تشغل حيزا كبيرا في التفكير الدفاعي لإسرائيل كأحد البدائل لقطاع غزة.
حل الدولتين وانعدام الأمل
تتفق جماعة العلوم السياسية على أن العقل الأمني الإسرائيلي يؤمن بمعادلة الصراع الصفرية التي تضمن بقاء الطرف الأقوى وزوال الطرف الآخر تماما؛ وانطلاقا من هذه القاعدة تتفق كل ألوان الطيف السياسي داخل إسرائيل في الحكم والمعارضة، وكذا المؤسسات الأمنية والعسكرية، على ضرورة هزيمة الشعب الفلسطيني وإبادته، أو على أقل تقدير تهجيره من الأرض، معتمدين في إدارة هذا الصراع على النموذج الاستعماري المتبع في تجربة قيام كل من الولايات المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا، غير أنهم يدركون أن الفارق الوحيد بين النموذج الصهيوني والنموذج الذي طُبِّق في تلك الدول الثلاث، هو أنهم لا يخوضون هذا الصراع في معركة واحدة متصلة ونهائية، بل وفق معارك متعددة الجولات، وعلى مراحل زمنية متباعدة، يتم تحديد كل منها على أساس طبيعة الديناميات السياسية الدولية، وتغير التوازنات الإقليمية، ووفقا لعوامل قوة وضعف الطرف الآخر في الصراع.
من هذه الزاوية يتضح لماذا ترفض العقلية الصهيونية إقامة أيّ كيان فلسطيني محدد الجغرافيا، حتى لو كان منزوع السلاح والسيادة، فنظرية الأمن الإسرائيلية تقوم على مبدأ نفي وجود الآخر، ومن ثم فإن قيام دولة فلسطينية هو إقرار ضمني بوجود الآخر وبحقّه في الوجود على أرضه، الأمر الذي يصطدم بالعقيدة الصهيونية القائمة على اقتلاع الطرف صاحب الأرض، من واقع قناعتهم بأن الأشكال الجنينية والكيانات السياسية المعترف بها، يمكن تطويرها ودفعها لتصبح أمرا واقعا. لقد اختبروا نجاح تلك الفرضية بما فعلوه هم أنفسهم حين أعلنوا دولتهم رغم كونهم محتلين لأرض غيرهم، ومن ثم فإن فرصة نجاح خصمهم أقوى؛ إذ أن مساحة حركة أصحاب الأرض لن تحتاج سوى وقت قصير لفرض أمر واقع وبناء دولة قوية يمكنها إنهاء الاحتلال.
هذه المقاربة توضح لماذا يرفض الإسرائيليون مبدأ حل الدولتين بالرغم من قبوله لدى كل حلفاء إسرائيل في الغرب وأولهم الولايات المتحدة الأمريكية إلى جانب أكبر وأهم الدول الأوروبية. الرفض الإسرائيلي لقيام دولة فلسطينية تزامن تاريخيا مع سعي الصهاينة لما يمكن أن يطلق عليه "أسرلة" فلسطين، أي أن الدولة المسموح بقيامها على أراضي فلسطين التاريخية هي إسرائيل فقط، يعيش فيها الفلسطينيون كرعايا دون الحديث عن حقوق وواجبات متساوية، وذلك بعد تهويد الأرض والمقدسات، أو بوصف آخر بعد تهويد التاريخ والجغرافيا، غير أن طوفان الأقصى وما أحدثه من تداعيات نسف هذه المقاربة وجعل الحل الوحيد القابل للمناقشة لدى الصهاينة هو طرد الفلسطينيين والخلاص منهم نهائيا بأي شكل حتى لو عن طريق الإبادة الجماعية.
نحو الطوفان
العنت الإسرائيلي تجاه كل مبادرات السلام الداعية لتسوية القضية وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة رغم كل التنازلات التي قدمها العرب والفلسطينيون، جعل الجميع يتأكد من أن المفاوضات مع الإسرائيليين لن تفضي إلى شيء، ومن ثم أصبح خيار المقاومة هو الحل الوحيد المتاح أمام أصحاب الأرض.
الحصار الخانق المفروض على غزة والتضييق الشديد على أهلها خصوصا في مصادر أرزاقهم وحركتهم، رفع منسوب الغضب الشعبي تجاه سياسات الاحتلال، ودفع في اتجاه زيادة شعبية حركات المقاومة بصرف النظر عن مرجعياتها الفكرية أو الدينية.
ومنذ انتقال فصائل المقاومة من دول الجوار العربي "الأردن ولبنان" لممارسة دورها الطبيعي من على أرض فلسطين، تغيَّرت اتجاهات الحركة الاستراتيجية للصراع، وراكمت جولات الصراع الواحدة تلو الأخرى معطيات جديدة استفادت منها حركات المقاومة التي استمدت دعمها الرئيس من الحاضنة الشعبية لأصحاب الأرض والحق في مواجهة القوة القائمة بالاحتلال.
لو كانت لحظة السادس من أكتوبر 1973 جاءت بسبب تراكمات حركة الصراع بين دُوَل الطوق والكيان الصهيوني، فإن السابع من أكتوبر 2023 جاء لنفس السبب، لكن هذه المرة جاءت المواجهة من داخل دولة الاحتلال.
بعبارة أخرى، جاء طوفان الأقصى تتويجًا لحركة المقاومة الفلسطينية عبر الانتفاضات الشعبية وعبر مقاومة متواصلة كانت ذروتها ما جرى في غزة، وأدى لانسحاب قوات الاحتلال الصهيوني منها عام 2005 - وفق ما أطلق عليه رئيس الحكومة الإسرائيلية وقتئذ أرييل شارون "خطة فكّ الارتباط".
خطة شارون لفك الارتباط في عام 2005، كانت تقوم على الانسحاب من غزة مع استمرار حصارها. كان رهان شارون على أن خنق القطاع سيخلق منه كيانًا متآكلًا من داخله ومضطربًا ومتقاتلًا بين مكوناته. هذه الفرضية تجاهلت احتمال أن يلتف أهالي غزة حول الفصيل الذي يرفع لواء المقاومة، وهو ما حدث لاحقا بالفعل ومهد الطريق أمام "حماس" للوصول إلى حكم قطاع غزة. بوصف أكثر اختصارا، شرعية حماس تأتي من كونها أكبر فصائل المقاومة القادرة على التصدي لغطرسة الاحتلال.
تأصلت المقاومة في غزة من هذه الزاوية، وانتقل القطاع شيئا فشيئا من موقع المُسانِد للضفة إلى موقع المهاجم صاحب المبادرة، عبر صواريخ المقاومة التي بدأت محدودة المدى ثم تطورت -بمرور الوقت وتراكم خبرات القتال - إلى بعيدة المدى قادرة على الوصول إلى أهم منشآت الكيان ومواقعه الحساسة، وهو ما اتضح خلال حرب عام 2014 التي مثلت بداية حدوث التغيير في موازين القوى بين الطرفين، ثم تأكد في معركة سيف القدس التي جرت في عام 2021، وشهدت – لأول مرة - حرب هجومية بالصواريخ وعبر الانفاق المتمددة إلى غلاف غزة ومحيطها. كانت المرة الأولى في التاريخ الفلسطيني، التي انطلقت فيها معركة هجومية من أرض فلسطينية باتجاه أرض فلسطينية محتلة.
أثبتت المقاومة خلال تلك الحرب قدرتها على التطور بعد أن أثبتت قدرتها على البقاء.
ما راكمته جولات الصراع بين فصائل المقاومة وقوات الاحتلال جسدته المعطيات الجديدة التي أفرزتها المعارك بين الطرفين خصوصا معركتي عام 2014، و2021؛ التي كشفت عن أنه أصبح للمقاومة قوة ضاربة تستطيع الوصول للعمق الإسرائيلي، بما فرَض معادلات جديدة تطورت تباعا حتى وصلت إلى ما تحقق في طوفان الأقصى.
تقول مصادر فلسطينية على مقربة من قادة حماس، إن المقاومة الفلسطينية شرعت في التخطيط لهجوم واسع النطاق منذ أن لمست قوتها الحقيقية خلال معركة 2014.
كان غرض الهجوم الشامل إعادة إحياء القضية بعد ما كادت أن تلفظ أنفاسها الأخيرة بالتسويات واتفاقات التطبيع الإبراهيمي التي شرعت في إبرامها دولة الاحتلال مع جيرانها العرب، مقابل تأسيس علاقات اقتصادية جديدة كانت ترعاها واشنطن.
البعد الأمريكي في الصراع لا يقل أهمية عن غطرسة الاحتلال في التعجيل بهجوم السابع من أكتوبر. بعض المحللين يرون أن هجوم الأقصى كان موجها إلى الأمريكيين بنفس الدرجة التي هو موجه بها إلى الصهاينة.
المخطط.. الدور الوظيفي للاحتلال
منذ أكثر من قرنين، اختمرت فكرة إقامة حاجز يهودي بين المسلمين وخاصة العرب، في عقول القوى الاستعمارية القديمة. أثناء الحروب النابليونية استقر القائد الفرنسي نابليون بونابرت إلى ضرورة إنشاء كيان لا هو عربي ولا هو إسلامي، يفصل بين المشرق العربي ومغربه في منطقة الشرق الأوسط المهمة استراتيجيا لأي تخطيط يستهدف زعامة العالم.
أراد نابليون بهذه الفكرة أن يضرب عصفورين بحجر واحد، الخلاص من اليهود مثيري الاضطرابات في أوروبا، واستخدامهم وظيفيا لضمان عدم توحد العرب ومن ثم سيطرتهم على الشرق الأوسط بكل ثقله الجيواستراتيجي على الساحة الدولية. هكذا جاءت "ورقة نابليون اليهودية"، التي عرضها أمام أسوار القدس وتوزعت على جميع اليهود في العالم، كتصوُّر للمستقبل ورؤية محتملة.
لم يمهل الوقت نابليون فرصة لتنفيذ مخططه، لكن الفكرة انتقلت من جيل إلى جيل، ومن مستعمر كولونيالي إلى آخر.
حين انطلق الوالي المصري "محمد علي" بجيوشه إلى أعتاب الأستانة وكان على مقربة من السيطرة على عاصمة الخلافة العثمانية، استشعرت بريطانيا خطر ظهور قوة جديدة في الشرق الأوسط تتزعم العالمين العربي والإسلامي وينتقل إليها إرث الخلافة العثمانية التي كانت تعيش مراحلها الأخيرة. أدركت الإمبراطورية التي وُصفت بأنها لا تغيب عنها الشمس، أن حصر الجيش المصري وراء صحراء سيناء، وتحويل هذه الصحراء إلى "سدادة فلين" تغلق عنق الزجاجة المصرية لعدم خروج المارد واندماجه مع قوى أخرى مؤثرة في المشرق العربي كسوريا والعراق، هو أمر بالغ الأهمية.
لم يكن وعد بلفور عام 1917 سوى صيغة تنفيذية لهذا المخطط.
في مذكرة تلقاها رئيس الوزراء البريطاني "لويد جورج" في 1921، أي بعد أربع سنوات من إعلان وعد بلفور، اقترح مدير العمليات في الشرق الأوسط الكولونيل "ريتشارد ماينر تزهاجن" ضم سيناء إلى فلسطين حتى يكون ممكنا وضع "حد فاصل".
الكاتب المصري الكبير محمد حسنين هيكل يقول في إحدى محاضراته إن الدور الوظيفي لإسرائيل كان محوريًا لعدم تحقيق الوحدة الإسلامية والعربية منذ إعلانها دولة يهودية، ومن ثم تطور إلى إقامة علاقات متكافئة مع بعض الدول العربية اقتصاديًا وعسكريًا وأمنيًا.
بوصف الكاتب الراحل فإن هذه الرسالة بدت وكأنها تصور للمستقبل أكثر منها رسالة مكتوبة لرئيس وزراء بريطانيا.
هيكل – الذي كان مطلعا على كثير مما يجري في كواليس السياسة الدولية – استطرد قائلا إنه وبفضل مجموعة من الظروف الدولية والإقليمية وديناميات السياسة، نجحت إسرائيل في بلورة صيغة أمنية جديدة للمنطقة، جعلت إيران هي العدو الأوحد لكل دول الإقليم وليس إسرائيل وحدها. هذه الخطوة كانت لازمة لإقناع العرب بضرورة تطبيع العلاقات مع إسرائيل والتحالف عسكريا معها لمواجهة التهديد الإيراني المتنامي.
بهذه الخطة تمكنت إسرائيل من تسويق نفسها كحامية للمنطقة العربية من خلال مواجهة التهديد الإيراني.
يقول المحلل السياسي عبد الله السناوي، إن نزع سيناء عن مصر لا يزال ــ حتى اللحظة ــ مطروحا في مراكز الأبحاث وصناعة القرار في الولايات المتحدة وإسرائيل، مؤكدا أن حفر قناة جديدة تقوض قناة السويس، وتقلل أهميتها الاستراتيجية لا يزال مشروعا قائما، معتبرا أن هذه الزاوية توضح إلى حد كبير كيف دفع الفلسطينيين أثمانا كبرى لاستهداف مصر منذ القدم وحتى لحظة طوفان الأقصى.
قبل عدة أشهر، اتفقت الولايات المتحدة الأمريكية مع حلفائها على ضرورة منع الصين من إعادة إحياء "طريق الحرير" الذي يربط شرق آسيا بغرب أوروبا ويفتح المجال أمام البضائع الصينينة لغزو العالم.
يعرف الأمريكيون مدى خطورة هذا الطريق على مصالحهم في المنطقة، وكذلك مدى النفوذ العالمي الذي ستكتسبه الصين من وراء هذا المشروع، لذا شرعوا في تأسيس مبادرة جديدة تكون بديلا لطريق الحرير أطلقوا عليها اسم "مبادرة التنمية".
ومبادرة التنمية هي مشروع أمريكي يربط شرق آسيا بغرب أوروبا لكن من طريق مختلف، يبدأ من الهند -منافسة الصين- ويمر بالخليج العربي وإسرائيل ثم ينتهي في أوروبا.
هذه المبادرة تنطوي على طرق تجارة برية وبحرية وقناة لربط البحر الأحمر بالبحر الأبيض غير قناة السويس، ورابط للاتصالات الدولية تتجمع نقاطه في مدينة عسقلان المتاخمة لقطاع غزة.
هذه الخطوة تستلزم تطبيع العلاقات بين إسرائيل وبعض الدول الخليجية المؤثرة في المنطقة مثل السعودية والإمارات، لكن عملية تطبيع العلاقات نفسها تقتضي تسوية القضية الفلسطينية أولا.
كما أن الموقع الجغرافي لعسقلان المجاورة لغزة يستلزم تأمينها من هجمات المقاومة المتكررة، ولا سبيل لضمان ذلك سوى بالتخلص نهائيا من فصائل المقاومة في القطاع.
ولأن إسرائيل رفضت كل مبادرات تسوية القضية الفلسطينية وفق مقررات الشرعية الدولية، حاولت الالتفاف على هذا الشرط بإبرام اتفاقات تطبيع منفردة مع بعض الدول العربية أطلقت عليها اسم "اتفاقات السلام الإبراهيمي".
حال نجاح إسرائيل في إنشاء علاقات طبيعية مع الدول العربية فإن القضية الفلسطينية تكون بذلك دخلت مرحلة الموت السريري انتظارا لإعلان الوفاة.
من هذه الزاوية جاءت عملية "طوفان الأقصى" في هذا التوقيت كخطوة ضرورية واستجابة طبيعية لمواجهة "مخططات" إسرائيل بتصفية القضية الفلسطينية مرة واحدة وللأبد.
بصريح العبارة، يمكن القول إن هجوم "طوفان الأقصى" أجهض المشروع الأمريكي كما أجهض مخطط إسرائيل بتصفية القضية في الوقت نفسه.
هذه الحقيقة تفسر لماذا دفعت الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاستعمار القديم بكل قوّتها العسكرية والاقتصادية والإعلامية لمساندة الكيان الصهيوني، في موقف يؤكد مجددا أن هذا الكيان هو صناعة غربية كاملة.
لازم تعيش المقاومة
موازين القوى تفرض على الجيوش العربية عدم المقامرة بدخول صراع عسكري مع إسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة والقوى الغربية. هذا الدور لا يستطيع أن يلعبه بعيدا عن حلبة السياسة الرسمية سوى فصائل المقاومة والفاعلين من غير الدول Non state actors.
حركة الجيوش النظامية تحكمها الاتفاقيات الرسمية بين الدول، بينما فصائل المقاومة لا يحكمها سوى قواعد القانون الدولي الذي يبيح لها حق المقاومة المسلحة في أي وقت طالما بقي الاحتلال قائما.
ما أنجزه المقاومون الفلسطينيون بطوفان الأقصى، فضلا عن كونه إحدى معارك التحرير الكبرى، حولهم إلى "حراس للقضية"، والأهم أنهم أعادوا قضية فلسطين إلى صدارة الاهتمام العالمي، وأنهوا كل محاولات التزييف لطبيعة الصراع، وأغرقوا الاحتلال في أزماته الداخلية وكشفوا وجهه الحقيقي لشعوب العالم، ورسموا بهجومهم الجريء خط الدفاع الأول عن الأمن القومي العربي عموما والمصري خصوصا.
تبقى الدلالة الرمزية المهمة لاختيار السابع من أكتوبر توقيتا للهجوم، وكأن المقاومون أرادوا باختيار اليوم التالي للسادس من أكتوبر التأكيد على أن الصراع العربي الإسرائيلي متواصل لم ينقطع حتى تحرير الأرض العربية وإنهاء الاحتلال.