الفرح المؤجل
دعانى صديق قديم إلى العشاء.. لم أتساءل بأى ثوب أذهب إليه، وهل أرتب خصلات شعرى، أم أتركها فى فوضاها المعهودة، ما فائدة السؤال؟، والأثواب كلها دون رؤياك، باهتة الشكل والقوام.. ما فائدة السؤال ؟، وخصلات شعرى تقفد- وهى غائبة عنك- سحر العنفوان.
دعانى صديق قديم إلى العشاء.. لم يحيرنى اختيار المكان أو الزمان، فكل الأمكنة والأزمنة، التى لا تجمعنى بك سواء.
استقبلنى صديقى القديم بدفء مؤجل سنوات، وابتسامات ود معطرة الأشواق.. أرد الدفء والود فى لا مبالاة.. كيف أبالى، وأنت وحدك الذى يسكن خيالى ويهفو على بالى؟.. يسألنى صديقى عن حياتى، وأحوالى، وأخبار صحتى، ومزاجى.
يطلب مشروبًا أحبه، يقدم لى هدية، يرسل نظرات الصداقة المتزجة بالإعجاب، بينما أنا سابحة فى ملكوت آخر، أسمه «أنت».
أشعر بالذنب، فالصداقة القديمة تحتم أن أهتم، ولو قليلًا بهذا الرجل الجالس أمامى.. أتذكر أننى فى وقت من الأوقات، كنت معجبة به.
الليلة، أتأمل ملامحه، وأستمع إلى كلامه، فأجدنى محايدة تمامًا تجاهه.
كيف تغيرت إلى هذه الدرجة؟، كيف وصلت إلى هذا الحياد العاطفى؟
لكننى لست مندهشة.. منذ عرفتك، وأحببتك، وأنا محايدة تجاه كل الرجال، أنت تملؤنى بقسوتك، ورقتك ترضينى وتفرحنى.. «احتليت» كل خلية فى كيانى، وامتزجت بدمى.
الرجال كلهم مقارنة بك، مجرد أشخاص، يروحون ويجيئون أمامى.. هم راكدون و«أنت» نار متأججة.. هم خانعون، و«أنت» ثورة عارمة.. هم عاديون فى كل شىء، و«أنت» غير عادى فى كل شىء، «أنت» جميل الوجه، وجميل الخطوات، وهم لا يلفتون النظر، أو السمع.
نفوسهم منكسرة، ونفسك أنت تسكن العلياء.. لك جسد ذو كبرياء عفيف، وأجسادهم متآكلة لا تعرف الحياء.
فكيف بعد أن عرفتك، وأحببتك، يستهوينى أى رجل كان؟.. كيف بعد أن عرفتك، وأحببتك، لا يكون الحياد العاطفى هو حالى مع كل الرجال؟
يسألنى صديقى: «فيم تشردين»؟
قلت: «لا شىء».
برقة يهمس: «وحشتينى».
قلت: «أشكرك».
يسألنى: «ماذا بك؟ لم أتوقع أن أراكِ هكذا».
قلت: «أعذرنى.. أنا الليلة منفصلة عن العالم والبشر والأشياء..».
قال: «معرفتى بك تؤكد أنك مشغولة القلب.. احكى لى عن الفارس الجديد الذى أخذك من العالم، والبشر، والأشياء، وجعلك تشردين وأنتِ معى».
فقط هذه اللحظة، حين سألنى عنك، بدأ اهتمامى بالجلسة، ظهر البريق فى عينىّ، انتعش الدم فى عروقى.
فقط حين سألنى عنك، بدا المكان جميلًا، وأصبح هناك مبرر وجيه للحديث، والابتسام، وتناول العشاء.
لست أدرى كم مضى من الوقت وأنا أتكلم عنك.. قلت كل شىء، ولم أقل شيئًا.. حكيت عن كل شىء، ولم أحك شيئًا.. فأنت رجل لا يُقال، ولا يُحكى عنه.. أنت مثل الحياة، سر كبير، يظل كامنًا بالقلب، أعيشه، ولست أستطيع الإفصاح عنه.
لست أدرى كم مضى من الوقت، وأنا وصديقى، نشرب نخب اشتياقى إليك، وولعى بك.
قال صديقى: «أول مرة أراكِ بهذا الحب».
قلت: «وآخر مرة.. إنه الرجل الذى لا تمن به الحياة إلا مرة واحدة.. إنه عابر السبيل الذى ينزل ضيفًا ليلة على البيت، ويرحل بعد أن يقلب حال الأشياء.. إنه الألم اللذيذ الذى يمنحنى الحق فى الحياة، وهو الظمأ الذى ينتظرنى بعد كل رشفة ارتواء».
يرمقنى صديقى بنظرات متداخلة المعانى.. يقول: «بداخلى مشاعر متناقضة. أحس بالغيرة. طالما تمنيت أن كون أنا منْ يفجر لديك هذه الأحساسيس. لكننى أيضًا أحس بالشفقة عليك.. حب كهذا يمكن أن يدمرك».
قلت: «إنه قدرى، لا أملك الهروب منه، حب عمرى المؤجل طوال العمر. ليته يدمرنى حتى أهتدى إلى سر وجودى».
يسألنى: «لماذا هو بالتحديد، أهى الفرحة بعد أن فاض قلبك بالأحزان ؟».
أقول: «مجرد وجوده معى تحت سماء واحدة، يغمرنى بفرحة غريبة المذاق. هو يفرح عقلى، ويفرح قلبى ويفرح خيالى. الفرح مع غيره مستحيل. لكن هناك أكثر من الفرح معه. كل شىء عنه، ومنه، حكاية أعيشها مثل الأساطير. لست أدرى أين الخيال فيها، وأين الحقيقة. كل لقاء معه مصير مجهول. إذا شاء يدخلنى إلى النعيم، وإذا تعكرت مشيئته، أرسلنى إلى الجحيم. معه أنا لست فى علاقة مع رجل واحد. إنه رجل جديد كل يوم».
يقاطعنى صديقى: «ولأنك امرأة متجددة كل يوم. يلائمك جدًا هذا الرجل».
أبتسم، ويأخذنى الشرود إليك.
يتركنى صديقى فى شرودى لحظات ثم يسألنى: «ما اسمه؟. ما اسم ذلك الرجل الذى لا تمن به الحياة إلا مرة واحدة؟».
أفيق من شرودى، وأنظر إلى صديقى.. لكن عينىّ لا تلتحمان إلا بملامحك أنت.
يكرر السؤال: «ما اسمه؟».
قلت: «اسمه مكون من أجمل الحروف، مشتق من أنبل الغايات، لاسمه رنين الموسيقى ورقة الأشعار، وفضية الماء.. بين كل حرف وآخر، وهج، وحكمة، وشىء من الأسفار».
يقول صديقى: «ألن تبوحى باسمه؟».
قلت: «ماذا يفيد البوح مع رجل أشبه بالأساطير؟.. ماذا يجدى البوح مع رجل يتجدد كل يوم؟».
يصمت صديقى لحظات، يكاد ينطق بشىء، لكنه يتردد.. يصب لى كأسًا أخرى.
فى صمت أرتشف المشروب.. أقول: «تصور، هذا المشروب تذوقته لأول مرة معه.. جعلنى أحب هذا المشروب الذى أصبح ثالثنا فى أمسيات الوصال».
يقول صديقى: «لم تتخيلى أن تشربيه مع رجل آخر.. أليس كذلك؟».
قلت: «أحس أنه مشروب مختلف».
يقول: «معكِ حق.. مذاق الصداقة غير مذاق العشق».
قلت: «صحيح.. لكننى لست فقط فى حالة عشق.. تصور أن كل شىء أمارسه معه له طعم مختلف، الهواء الذى أتنفسه معه، ليس هو الهواء. والماء فى حضوره ليس كالماء. لا الأشكال هى الأشكال، حين أكون معه، ولا الألوان هى الألوان. حين تلمسنى يداه، تهجر الأرض مدارها، وعن الأنظار تُحجب السماء».
يهمس صديقى: «أحسدك وأخاف عليكِ من هذا الطوفان».
تسحبنى تنهيدة عميقة، أقول هامسة: «هو الطوفان الذى ينقذنى، وهو الفناء الذى يبعثنى من جديد».
تركت صديقى القديم، وأسرعت إلى بيتى، لأختلى وحدى بذكراك.
الليلة، كم أنا فى حاجة إلى صحبتك. كم أحن إليك، وأتمنى لو ينتهى الليل وأنا بين يديك.
أخرج للسهر والعشاء مع غيرك، فإذا المساء كله كان معك. أريد أن أحكى لك عن هذا الموقف الغريب.
لا بد أن تعرف، أنك ألغيت كل الرجال فى نظرى. أنت مَنْ أحمله، على امتداد قامتى، وأنت مَنْ أشتهيه.
يرن الهاتف.
يفاجئنى صوتك الدافئ فى لهفة متسائلًا: «أين أنتِ؟ حاولت الأتصال بكِ أكثر من مرة «.. تهزنى المفاجأة، والفرحة.. أقول: «دعانى صديق قديم إلى العشاء».
قال: «يا لها من مصادفة.. أنا الآخر سهرت الليلة مع صديقة قديمة عادت من السفر.. تصورى، قضيت الوقت كله أكلمها عنكِ دون أن أقصد.. كنت أشرب معك أنتِ، وأتناول الطعام معك أنتِ.. تعجلت انتهاء السهرة لأكلمك..».
أقاطعه: «أريد أن أراك.. لا بد أن نلتقى الليلة.. أنا قادمة إليك».
بمزيج من الدهشة والترقب يسألنى: «أحقًا ستأتين؟. أنا فى انتظارك».
لم أشعر بنفسى، إلا وأنا أقود سيارتى، فى الطريق إليه.. يا كل العمر المؤجل من الفرح، الليلة أزف إلى عينيه.
ما أحلى أن ينتهى الأجل الليلة.
من بستان قصائدى
ماذا أعطيك؟
أخبرنى بالسِر فيك
أنت لا تمنحنى شيئًا
وتمنحنى كل الأشياء
قل لى.. ماذا أعطيك؟
لتعرف كم أنا مريضة بك
وكم كسرت من زجاجة دواء
لينعدم فى الأفق أمل الشِفاء
ماذا أعطيك؟
لتتكشف لك خطوط مأساتى
لوحة احتضنت فوضى ألوانى
تشكلت فى رحمى أجنة
من روايات وخيالات وأشعار
ماذ أعطيك؟
لقد كفرت بمعنى العطاء
معتكفة فى وكر ملذاتى
إدمانى لوحدتى
وهوسى بذاتى
ماذا أعطيك؟
رجل أنت
من دم ولحم وأعصاب
أنا امرأة من ورق
لا أْوجد إلا حينما أكتب
وكل ما عدا ذلك
عدم.. ومحض سراب
كيف لا تمنحنى شيئًا
وتمنحنى كل الأشياء
سؤال سيظل بلا جواب
سحابات بسمائى لا تمطر
لست مؤرقة أو محيرة
أعلم أن أهم الأسئلة
تبقى عصية على الجواب
يا منْ يمنحنى كل الأشياء
ولا يمنحنى شيئَا
ماذا أعطيك؟
خذ قلبى