الميراث المُشرف.. ماذا ترك لنا طارق عبدالعزيز؟
تربينا فى حوارى مصر وأزقتها أن الإنسان سيرة تمشى على الأرض.
وسربت لنا أمهاتنا وجداتنا من خلال حكاياتهن ذلك المعنى دون أن ندرى.. فكل إنسان يعرف أن مصيره هناك فى الضفة الأخرى مجهولة الملامح، ولن يبقى له بين الأحياء غير سيرة.. والسيرة- حلوة كانت أم سيئة- هى الميراث الأهم الذى يتركه المرء لأبنائه.. فلن ينفع الأبناء أطيان وأفدنة آبائهم الراحلين ما لم تحوِ بجانبها سيرة حلوة، وكلمة حق تقال عن الراحل فى غياب جسده.
طارق عبدالعزيز الفنان المصرى المعجون بتراب هذا الوطن له تصريح عبارة عن جملة واحدة ضمن حوار تليفزيونى طويل، هذه الجملة تلخص حياة ذلك الرجل وتستطيع من خلاله أن تكون رؤية عن منظومة قيمه التى آمن بها فى حياته، وفى أغلب الظن كانت سببًا فى تأخر شهرته المستحقة.
قال طارق بالنص: «كانت بتجيلى فى الأول أفلام كتير بس عجيبة شوية، مش مناسبة، لكن القرار كان قاطع بالنسبة لى أنا مش هسيب ميراث للأولاد وحش يستعروا منه».
إذن رهان طارق عبدالعزيز من أول يوم كان الإرث المشرف، وهو نفس الرهان الذى على ما يبدو شاركه فيه صديق العمر ورفيق الأيام الحلوة فى مسرح جامعة القاهرة فى الثمانينيات خالد صالح.
استوعب هذا المسرح مواهب بحجم الجبال.. شباب مفعم بالطاقة الفنية التى تتحين الفرصة لتنفجر وتعلن عن نفسها أمام الجميع وتحلق بعيدًا عن ضفاف المسرح الجامعى الضيق.. ولكن نافذة الشهرة كانت ضنينة عليهم، والضوء الذى تفرزه لم يكف حجم مواهبهم الفتية فى بادئ الأمر.. دور هنا على دور هناك لأحدهم كان فرحة للكل، سواء كان محمد هنيدى أو خالد صالح أو خالد الصاوى، أو غيرهم.. حتى جاء اليوم الذى فتحت الدنيا ذراعيها لهذا الجيل عندما بدأت بهنيدى، الذى فجر الأرض من تحت أقدام أبطال السينما الكبار؛ ليعلن عن مولد جيلهم بفيلمه الأهم «صعيدى فى الجامعة الأمريكية».
صحيح أن طارق شارك بدور هامشى فى هذا الفيلم.. لكن بالتأكيد كان سعيدًا لانتصار هنيدى لأنه بالضرورة انتصار لتلك الأحلام العريضة التى نسخوها على خشبة مسرح جامعة القاهرة منذ سنوات بعيدة.
وبينما هنيدى يشق طريقه نحو القمة ليصبح ربانًا لسفينة الجيل السينمائى الجديد.. كان طارق وخالد صالح يتحينان الفرص ليسجلا اسميهما فى دفتر الحضور الفنى عبر أدوار صغيرة لا تناسب مقاس مواهبهما الضخمة.. واكتفى الاثنان ببعض الأدوار الصغيرة فى بعض أفلام ومسلسلات نهاية التسعينيات، وكلها أدوار على قصرها لم تكن رديئة الصنعة من النوع الذى يشعر صاحبه بالخجل، وارتضيا أن ينتظرا سويًا زمنهما الذى كان يقينًا سيأتى. وبالفعل بدأت الألفية الجديدة بأدوار للثنائى أكثر لمعانًا حتى جاءت سنة ٢٠٠٤ بانفراجة فنية للصديقين، حيث صدر فيلم «كيمو وأنتيمو» الذى تشارك فيه طارق عبدالعزيز البطولة مع عامر منيب، وفى نفس السنة كان خالد صالح يؤدى دوره الأيقونى فى فيلم «تيتو» مع فتى سينما الشباب وقتها أحمد السقا.
من بعد تلك السنة بدأت أبواب الدنيا تتفتح للثنائى، خاصة خالد صالح الذى صار مجرد ظهوره على تترات فيلم هو ختم جودة لهذا العمل، وتتابعت الأعمال على شاكلة «فتح عينيك، وحرب إيطاليا، وملاكى إسكندرية»، مرورًا بـ«الحرامى والعبيط، وعمارة يعقوبيان»، ثم «كف القمر، والجزيرة ٢». وفى نفس السياق الزمنى كان الصديق الآخر طارق عبدالعزيز ينسج أدوارًا قصيرة فى السينما والتليفزيون، لكنها رسخت حقيقة فى أذهان المشاهدين أن مجرد ظهوره على الشاشة هو إيذان برؤية فنان متماهى مع فنه، ولن تشعر لحظة واحدة مهما حاولت أنه منفصل عن الشخصية التى يؤديها، وذلك أمر لو تعلمون عظيم.
وظل طارق وخالد متلازمين إنسانيًا بشكل يدعو للإعجاب؛ لأن الوسط الفنى هو أكبر بالوعة للصداقة النقية منزوعة المصلحة.. فأصدقاء اليوم هم أعداء الغد، وتصريح هنا على تصريح هنا تضيع الذكريات الحلوة.. لكن مع طارق عبدالعزيز وخالد صالح الأمر مختلف.
فمنذ عشر سنوات، تقريبًا، ظهرت أخبار إجراء خالد صالح النجم اللامع عملية قلب مفتوح خطيرة فى جنة الدكتور مجدى يعقوب فى أسوان.. يكفى أن تعرف أن المنفذ الوحيد للاطمئنان على خالد صالح هو شخص واحد فقط اسمه طارق عبدالعزيز.. وتلك حكاية يتداولها الوسط الفنى فيمن بينهم للتدليل على قيمة الوفاء والصداقة، حيث انتقل طارق بالكلية ليعيش حياته كاملة فى أسوان بجانب صديق عمره ورفيق أيامه الحلوة، وأوقف كل مشاريعه الفنية حينها.. لأن مشروعه الأهم كان بين يدى الأطباء يحاولون أن يعيدوا قلبه العليل إلى مساره الطبيعى.. لكن فى يوم ٢٥ سبتمبر ٢٠١٤ استيقظ الناس على صدمة غياب الفنان ثقيل القيمة عظيم الموهبة خالد صالح.. وشعر الجميع بالحزن بطبيعة الحال، لكنه كان حزنًا مختلفًا تشوبه مسحة دهشة واستخسار فى الرحيل المبكر لولا أنها إرادة الله.. دهشة من تلك الدنيا غير العادلة التى لم تنتبه لموهبة خالد إلا متأخرًا قبل وفاته بسنوات قليلة، وما إن يبدأ فى استخراج لؤلؤته من مكمنها ويعرف الناس أن بينهم موهبة استثنائية فى فن التشخيص، يخطفه الموت.
على أى حال ذهب خالد صالح وترك ميراثًا فنيًا ينوء بحمله أنصاف المواهب ومدعوها ولو عاشوا ألف عام، وترك صديقه الصديق يصول ويجول بموهبته الفنية الفريدة باحثًا عن المكانة التى يستحقها.. لكن طارق بقى محاصرًا فى قماشة ضيقة فى مساحة الأدوار؛ إلا أنه بما امتلكه من قبول ربانى وموهبة استثنائية استطاع أن يترك بصمته فى كل وقفة أمام الكاميرا حتى لو كانت لدقائق معدودة فى فيلم مدته ساعتان.
امتلك طلته الخاصة التى فرضت حبه على الناس فرضًا، وجعلت دخوله القلوب إجباريًا لا مناص منه، فأصبحت فكرة البطولة المطلقة ليست ذات جدوى عند طارق عبدالعزيز، فيكفيه دور يشعر به ويحبه ليبدع فيه ويجعله أيقونيًا داخل العمل، وآخرها مثلًا مسلسل أسامة أنور عكاشة الأخير «راجعين يا هوى»، وهو الدور الذى ظهر فيه ثقل موهبته الفطرية.. وبدا أن طارق بدأ يأخذ مكانته الحقيقية التى كان يستحقها منذ زمن، وترسخت مكانة «الفنان القدير» الذى ستعوضه عما افتقده كفنان كوميدى شاب لم يأخذ ربع ما يستحقه.
لكن ما حدث للصديق الأول خالد صالح حدث للصديق الثانى طارق عبدالعزيز، حيث فجع الجميع بخبر رحيله المفاجئ واقفًا أمام معشوقته الكاميرا، وهو يؤدى آخر أدواره فى مسلسل «وبقينا اتنين».. نفس إحساس الحزن المشفوع بندم على تأخر اكتشافه.. لكن اللافت فى الأمر أن طارق كما خالد لم يفرطا فى إرثهما بأدوار لا تناسب حجم مواهبهما، فى وقت كانا يحتاجان لربع فرصة ليعلنا عن وجودهما، لكن طارق قالها فى إطار حواره كما قلنا فى بدء الكلام «مش هسيب ميراث للأولاد وحش يستعروا منه»، ذلك مبدؤه الذى ربما جعله بلغة الأرقام متأخرًا عن كثير من أبناء جيله.. لكنه حافظ على قيمة تمثلت فى حقيقة ملهمة، أن الموهبة نعمة كبيرة من الله فلا يجب ولا يصح أن تهان.. وسيعرف الناس قدرها ولو بعد حين، وهذا بالضبط ما حدث للصديقين خالد صالح وطارق عبدالعزيز.. عليهما رحمة الله.