مؤتمر الأمانة العامة للإفتاء.. رؤية جديدة لدور العلماء
تستعد الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم لعقد مؤتمرها العالمي الثامن تحت عنوان (الفتوى وتحديات الألفية الثالثة) الذي يعقد برعاية الرئيس عبدالفتاح السيسي في إطار حرصه على تجديد الخطاب الديني والإصلاح بصفة عامة، والمؤتمر يناقش التحديات العالمية التي تواجهها البشرية في هذه الألفية، وانعكاس ذلك على الدور المنوط بمؤسسات الفتوى حول العالم، وما يجب أن تقوم به من أجل إيجاد حلول عملية وجادة لما ينشأ عن تلك التحديات من آثار تمس الفرد والمجتمع المسلم، وتؤثر على التعايش الإنساني بشكل عام.
ويشهد المؤتمر حالة فريدة من الاهتمام والزخم الكبير على المستوى المحلي والدولي، وذلك من خلال ما تحظى به فعالياته من مشاركة علماء ومسئولين ووفود ممثلين لأكثر من مائة دولة، كما يشهد حضورًا أمميًّا رفيع المستوى بمشاركة عدد من الهيئات الدولية والأممية، حيث يشارك ممثلون عن منظمة الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، والاتحاد الإفريقي ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وهو ما يعكس الدور الذي تقوم به الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، ومدى أهميته في إبراز المشاركة الفاعلة للمؤسسات الإفتائية في مواجهة التحديات العالمية.
يناقش المؤتمر طبيعة التحديات التي تواجه المجتمعات في ألفيتها الثالثة، من حيث مدى تأثيرها في بناء الوعي الإنساني، وانعكاسات ذلك على الفكر والسلوك، وارتباطه بالانفتاح السريع والمستمر على المستوى الإلكتروني والتقني، وما يواكب ذلك من تحديات اقتصادية تؤثر على الرؤية التنموية التي يطمح إليها المجتمع الإنساني، وهذه التحديات تؤثر بلا شك على البناء الأخلاقي والقيمي للعديد من المجتمعات، لا سيما تلك التي تتمتع بخصوصية ثقافية وحضارية، وهي تطمح إلى مواكبة مستجدات العصر دون إخلال بقيمها ومبادئها، وهو ما يستدعي مواجهة تلك التحديات بالطرق التي تضمن ثبات تلك القيم أمام الأصوات الداعية لتبني مفهوم نسبية الأخلاق، والتي تعمل على خلق مفاهيم جديدة تتسم بالسيولة، وتحاول إسقاط المنظومات والرؤى الكلية التي تستند إلى الأديان والمبادئ الأخلاقية الثابتة.
تضع هذه التحدياتُ الحضورَ من العلماء والمفتين أمام مسئولية كبيرة تتمثل في ضرورة إيجاد وثيقة مشتركة وصيغة فاعلة لطرق تعامل مؤسسات الفتوى مع العديد من القضايا الملحة التي تفرضها تلك التحديات على المستوى الفكري والاجتماعي والاقتصادي، ومعالجة الإشكاليات الناتجة عن محاولات فرض المفاهيم السائلة، والتي تؤدي إلى خلق مشكلات فكرية ونفسية واجتماعية، ابتداءً من العبث بهوية النوع الإنساني مما يؤثر سلبًا على البنية الأساسية للمجتمعات، ووصولًا إلى الصراعات التي تهدد الأمن العالمي فيما يتعلق بقضايا المناخ والحفاظ على البيئة، وغيرها من القضايا الإنسانية المشتركة، وهي القضايا التي نطمح أن يسفر المؤتمر عن مبادرات ومواثيق تمثل قدرة الخطاب الديني المستنير بعلمائه ومؤسساته على مواكبة تلك المستجدات، والتعامل معها بطرق فعالة تستند إلى تأصيلات شرعية منهجية.
ويعد اجتماع نخبة علماء ومفتي العالم الإسلامي الذين يقودون قاطرة الخطاب الديني بمثابة فرصة لوجود إجماع من العلماء المشاركين بشأن الثوابت المتفق عليها حول القضايا المطروحة، خصوصًا تلك التي تتعلق بالمستجدات التي تؤثر على استقرار القطعيات الشرعية والمبادئ الأخلاقية في نفوس المسلمين، ليكون ذلك الإجماع بمثابة إحياء لأصل الإجماع الذي مارسته الأمة من خلال العلماء المجتهدين فيما يستند إلى أصل شرعي يحتاج إلى غلق باب الاحتمال والاضطراب في فهمه، مما يساعد على استقرار الثوابت التي تصون هوية المسلمين أفرادًا ومجتمعات، وذلك من خلال القيادات الدينية المتمثلة في السادة العلماء، وهو ما يعزز إجماعات المؤسسات الفقهية والدينية التي مثلت في العقود الأخيرة بديلًا عن ذلك النمط من الإجماع، ولا شك أن اجتماعهما معًا وتعاضد كل منهما بالآخر يرسخ القطعيات والثوابت الدينية والأخلاقية في وجدان المسلمين.
ولا شك أن القضية الفلسطينية على رأس تلك الثوابت التي يتمسك بها ويجمع عليها العلماء المشاركون في المؤتمر باعتبارها قضية أمة لا يمكن التفريط فيها بحال من الأحوال مهما تقادم الزمان، ولا يمكن إسقاط الحق والتنازل عن القدس التي تمثل عقيدة ورمزًا مقدسًا لدى عموم المسلمين بوجود المسجد الأقصى وجميع المقدسات الدينية، والتي يجب على المجتمع الدولي حمايتها من ذلك الإرهاب الغاشم الذي يمارسه الاحتلال الصهيوني، الذي يسعى إلى تفريغ القضية من مضمونها والقضاء على الشعب الفلسطيني، وتهجيره من أرضه ووطنه، وتصفية القضية الفلسطينية، وهو ما يرفضه علماء الأمة جميعًا، ويعتبرونه استفزازًا لمشاعر المجتمعات العربية والإسلامية التي تقف بجانب الشعب الفلسطيني وتسانده في استرداد حقوقه، وتبذل كل ما تستطيع من أجل الحفاظ على الرموز والثوابت والمقدسات الدينية.
إن الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم بما تمثله من مظلة عالمية للمؤسسات الإفتائية حريصة من اللحظة الأولى لتأسيسها على القيام بدورها بدافع المسئولية، واستشعار الأمانة التي تتحملها في توحيد جهود مؤسسات الفتوى وربطها بقضايا العصر ومستجداته، وهو ما يظهر جليًّا من خلال المؤتمرات العالمية وورش العمل والندوات التي تعقدها الأمانة في إطار صياغة خطاب ديني مستنير، والعمل على تفكيك الخطاب المتطرف الذي يمارس العنف، ويشيع خطاب الكراهية، ويتسبب في زعزعة أمن واستقرار المجتمعات.
وقد سعت الأمانة في المؤتمرات السابقة وتسعى في هذا المؤتمر إلى إيجاد حلول مشتركة للقضايا التي تتعلق بالفكر الديني والإفتائي من جانب العلماء والمختصين، وتحويل نتائج وتوصيات تلك المؤتمرات العالمية إلى برامج عمل واسعة النطاق، تحقق الأهداف المرجوة منها من خلال المشاريع العلمية والموسوعات والبحوث الجادة التي تصدرها الأمانة، والعمل على تأهيل وتدريب القيادات الإفتائية في مختلف بلدان العالم، وتبادل الخبرات بين مختلف مؤسسات الفتوى، وتوحيد وجهات النظر فيما يخص القضايا المشتركة.
إن استمرار الجهود التي تبذلها الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم هو الذي يجعلها جديرة بتحقيق تلك الآمال المعقودة عليها، بما يجعل منها مؤسسة قادرة على النهوض بأعباء تلك الرسالة التي تتحملها، والقيام بالدور المنوط بها على أكمل وجه، وذلك من خلال استمرار العمل على مناقشة القضايا الجادة ذات البعد الحضاري، واستثمار الجهود العلمية في وضع خرائط لمواجهة الأفكار المغلوطة، التي تدفع المجتمعات إلى منحدرات التطرف أو الانحلال، والقيام بنشر خطاب يتبنى منظومة فكرية منضبطة، تستند إلى ضوابط دينية وقيمية وأخلاقية.
د. إبراهيم نجم
مستشار مفتي الجمهورية والأمين العام لدور وهيئات الإفتاء في العالم