أيام محمد صالح
للشاعر الراحل محمد صالح «١٩٤٢- ٢٠٠٩» ومحمد فريد أبوسعدة، متعه الله بالصحة والعافية، منزلة كبيرة فى قلبى، ليس فقط بسبب منزلتهما العالية فى فن الشعر، ولكن لكونهما من أعز أصدقائى من الشعراء الأكبر سنًا، ولأن الشعر كان هو ما يجمعنا، سنوات طويلة نلتقى حول ما نكتب، ونتناقش حول ما يكتبه الآخرون، كنا نبحث معًا عن طرق جديدة للقنص، لكل واحد طريقته لا شك، وكان كل منا يفرح عندما يكتب أحدنا شيئًا جديدًا، نحتفل جيدًا، فى الأماكن التى نلتقى فيها، فى بولاق أبوالعلا عند صديقنا محمد شهدى فى حضور محمود الوردانى وبدر الرفاعى، أو فى سكنى المتواضع فى بولاق الدكرور الذى كان عامرًا بالشعر والشعراء والغناء وسماع المقرئين العظام، أكثر من عشرين عامًا نلتقى بانتظام فى رحاب الكتابة، أجواء أفتقدها الآن بشدة، خصوصًا بعد أن انتقل أبوسعدة للعيش فى مسقط رأسه فى المحلة الكبرى، وفقدت الأماكن التى جمعتنا حميميتها، وبعد أن أغرق كتاب الحكايات المجال العام بأعمالهم التى تفتقد إلى الشعر وتبحث فقط عن الجوائز.
ديوان محمد صالح الأول «الوطن الجمر» صدر سنة ١٩٨٤، جمع فيه ما كتبه فى السبعينيات، كانت قصيدة الرواد تتراجع، وكان نفوذ شعر أمل دنقل هو المسيطر، شعراء السبعينيات احتكروا الحديث عن الشعر، وشكلوا ميليشيات شعرية استبعدوا منها محمد صالح وفريد أبوسعدة ومحمد ناجى وغيرهم من الشعراء الذين استلموا الراية من سابقيهم. أشار الديوان إلى موهبة صادقة، كان ديوانًا غنائيًا بامتياز، صاحبه يمتلك لغة عريقة ورشيقة، ويبحث عن مكان يخصه على خريطة تشابهت الأصوات فيها، كان الديوان متداولًا على نطاق ضيق، وعندما عاد محمد صالح من السعودية منتصف الثمانينيات بعد تجربة مريرة، وجد شبابًا يقدرون موهبته، كنت منهم، سرعان ما انخرط فى الحياة العامة وانحاز للتجمعات الهامشية التى تنتج شيئًا مختلفًا عن السائد، فى مطلع التسعينيات، وبعد هزيمة قصيدة الرواد بسبب حرب الخليج وسقوط البلاغة القديمة فى الامتحان، وأيضًا انهيار الاتحاد السوفيتى، نجحت قصيدة النثر فى جذب أصوات كثيرة نقية إليها، وصدرت مجلات تحتفى بها مثل الكتابة الأخرى والجراد والفعل الشعرى، وبدأ النقد يعترف بها رسميًا، فى البداية تأمل صالح الظاهرة بريبة، وبطريقته المحببة فى تقصى الأمر، ورغبته الحقيقية فى التواصل، استطعمها وبدأ فى كتابتها، وفى ١٩٩٢ صدر ديوانه الثانى «خط الزوال» وكان عبارة عن جزءين، الأول يودع به عالم التفعيلة ويكشف فيه عن مهاراته الإيقاعية، والثانى يتحسس خطواته مع الشكل الجديد، كان انحيازه للشعر الجديد مفاجأة سارة للشباب، وبدأ مشروعه الكبير.
صدر ديوان «صيد الفراشات» سنة ١٩٩٦ عن هيئة الكتاب بغلاف جميل جدًا لـ«اللباد الكبير»، وكان حدثًا شعريًا حقيقيًا، اهتم النقاد به، وأنا احتفلت به هنا فى الدستور، كانت قصيدة النثر قد استقرت فعلًا، وزهق خصومها الذين لم يطوروا قصيدتهم أو أفكارهم، وكان الإسهام المصرى فيها عفيًا ومتنوعًا، صالح اختار لغة متقشفة دالة، تعتمد علىالخبرات المتراكمة لدى القارئ، هو يشير ولا يفصح، يضعك فى حالة شعرية دون استخدام حيل الآخرين، ودون محسنات تقليدية، ومن خلال إيقاعه هو نجحت خلطته السحرية فى اكتشاف الشعر فى المواقف العابرة أو المنسية، كان يعبر عن أحزانه، دون أن يتورط فى استجداء مشاعرك، عندما افتتحت الحظيرة للمثقفين «الذين أصبح عدد كبير منهم فيما بعد ثوارًا!» كتب فى قصيدة تياترو «كان أبطال العرض، المزهوون بأنفسهم، يسقطون واحدًا بعد الآخر، وحتى هؤلاء الذين أحببناهم وتعلقنا بهم، كانوا ينتهون نهايات أسيفة، ويشاهدون فى الكواليس، وهم يلحفون فى طلب الأدوار، ويتمسحون بالمخرجين، وهؤلاء كانوا ينحونهم فى غلظة، ونفاد صبر، ونحن محشورون هناك، على الدكك الخشبية فى الصالة الضيقة، نصفر فى هياج، بانتظار أن تتفتق قرائحهم عن نهاية ما سعيدة». لم يتخلص محمد صالح من قاموسه اللغوى وهو ينتقل من التفعيلة إلى قصيدة النثر، تخلص فقط من الشحوم البلاغية التى كبلت اللغة وجعلتها عبئًا على الشعر، بعد ذلك أصدر: حياة عادية، مثل غربان سود، لا شىء يدل، دواوين صغيرة الحجم كبيرة القيمة، وشعر جميل صاف خال من الادعاء، صالح الصديق الجميل الذى نفتقده ونفتقد شعره يقول فى إحدى قصائده:
لا شىء فى متناوله
لا الشمس البعيدة
ولا الريح التى تضرب الزجاج
حتى حياته
تجرى على مسافة منه
إنه يراها كشريط مصور
ويرى نفسه فيها
مثل قشة فى الريح