«1000 بروفة للعبور».. كيف انتصر الجيش المصري قبل حرب أكتوبر؟
- عمليات عبور حرب الاستنزاف كسرت الحاجز النفسى للمقاتل المصرى
- الأمل فى تحقيق النصر بدأ مع أول مقاتل تجرأ على عبور القناة بعد النكسة
- بدأت عمليات العبور ليلًا ثم نفذها الأبطال فى «عز الضهر»
لم تنتصر مصر فجأة فى حرب أكتوبر ١٩٧٣. ولم يكن عبور قواتنا المسلحة فى العاشر من رمضان إلا تتويجًا لمئات من عمليات العبور التى شهدتها حرب الاستنزاف.
كلمة «العبور» التى أصبحت بفضل انتصار أكتوبر أعمق من مجرد كلمة. سحر الكلمة جعل منها أيقونة مُعرّفة بالألف واللام، إذ لا عبور إلا عبور أكتوبر. لكننى فى أثناء بحثى فى الأرشيف الصحفى لمصر ولدول عربية شعرت بأننا دون قصد ظلمنا ألف عبور وعبور، لم ينالوا شرف التعريف بالألف واللام!
إنها عمليات العبور التى تمت تحت ستار ليالى «الاستنزاف» الغامضة، والتى شارك فيها الأبطال الأوائل، أبطال التجارب الأولى، الذين حملوا أثناء عبورهم سلاحًا خفيفا، وقلقًا ثقيلًا، وبادروا لأن يكونوا مصباحًا يضىء لرفاقهم الطريق إلى الضفة الشرقية. جربوا العبور ليلًا، فانكسر الحاجز النفسى، فخاضوا تجربة العبور فى عز النهار، وتكرر الأمر مرات ومرات، حتى صار مجالًا للتنافس بين أبطال حرب الاستنزاف.
العبور.. أكبر من كلمة
بعد أقل من شهر واحد على هزيمة يونيو ١٩٦٧ بدأت كلمة العبور تظهر على صفحات الجرائد المصرية والعربية. وربما لم يصدقها الناس فى البداية، شكًا فى إعلام ما قبل يونيو، وتأثرًا بدعاية الإذاعات الأجنبية للعدو وباقى عصابته.
خرجت الصحف بمانشيت ضخم من كلمتين فقط على لسان عبدالناصر: «سنعبر القناة»، هكذا حاسمة قاطعة، وكالعادة تعامل الناس مع كلمة العبور المنتظرة باعتبارها «كلام جرايد». بينما الواقع أنه لم يكن مجرد كلام، وإنما كان اليقين فى الله وإصرار المقاتل المصرى بعد أن تعلم الجميع درس الكفاءة والتدريب والتخطيط السليم.
نشرت الصحف صورًا لأسرى العدو، أحضرهم أبطالنا العائدون من الجبهة الشرقية فى العديد من عمليات العبور التمهيدية، فقلل البعض من الإنجاز والتطور فى مستوى التدريب والقتال، واعتبروها مجرد عمليات فردية، بينما كانت تجارب العبور تتطور وتصبح أكثر جرأة وأشد اتساعًا فى نطاقها يومًا بعد يوم.
كان من نتائج إحدى عمليات العبور خسائر فادحة للعدو، حتى أطلق على يوم العملية «السبت الحزين». وقلل الناس من الإنجاز مجددًا، حتى جاء يوم «سبت حزين» آخر على العدو، لكن فى ٦ أكتوبر ١٩٧٣ بخسائر أكثر فداحة للعدو، وبانتصار فى «عز الضهر»، حققه أبطالنا أنفسهم، الذين كنا نظن عمليات عبورهم فى حرب الاستنزاف مجرد عمليات فردية لا تبعث فى نفوسنا الأمل!
من يبحث فى تطور وتتابع أخبار عمليات عبور قناة السويس خلال حرب الاستنزاف، وصولًا إلى عبور أكتوبر ١٩٧٣، سيشعر بأن هؤلاء الأبطال يرسلون إلينا برسالة نبيلة بين سطور أخبار أيامهم الخالدة. وكأن صوتهم ينادى أجيالًا بعد أجيال:
لا تفقدوا الأمل، ولو كان اليأس أمامكم حائطًا حصينًا.
لا تفقدوا الأمل، ولو أعماكم اليأس عن بقعة ضوء خافتة هنا أو هناك.
لا تفقدوا الأمل، ولو منعكم الإحباط عن حُسن تقدير قيمة خطواتكم الصغيرة، أو تلك التى تبدو صغيرة.
لا تفقدوا الأمل، كمن كانوا يقرأون أخبار انتصاراتهم الصغيرة على صفحات الجرائد يوميًا، ولم يصدقوا أن الأمل أمام أعينهم، حتى جاءهم اليقين، لكن بعد حين.
لا تفقدوا الأمل؛ أى أمل.
نرفق هنا نماذج من صفحات الجرائد والمجلات المصرية والعربية خلال سنوات حرب الاستنزاف، ترصد أخبار عمليات العبور وتطورها. ولتذكر عزيز القارئ عند مطالعة كل صحيفة منها، أنك تقرأ كلمة العبور، فى زمن لم تكن للكلمة جلالها بعد. وحدهم الأبطال على الجبهة كانوا يقدرون الكلمة حق قدرها، ويدركون أن الانتصارات الكبيرة، يلزمها بروفة، بل ألف بروفة وبروفة.
بعد استشهاد الفريق عبدالمنعم رياض فى القصف المدفعى الافتتاحى لحرب الاستنزاف، قرر البطل إبراهيم الرفاعى الانتقام من نقطة لسان التمساح «شرق مدينة الإسماعيلية»، وهى النقطة التى أصابت الشهيد عبدالمنعم رياض. وفى ليلة ٨ يوليو ١٩٦٩ تحرك أبطال المجموعة ٣٩ قتال بقيادة الرفاعى، وعبروا قناة السويس وصولًا إلى النقطة الحصينة، فأصابوا نحو ٣٠ فردًا للعدو، ودمروا دبابتين، ونسفوا أربع دشم، وخسرت قواتنا تسعة شهداء فى هذه العملية.
وفى ليلة ١١ يوليو ١٩٦٩، نفذ أبطالنا عملية عبور أخرى أصابت قوات العدو فى مقتل، بالإغارة على نقطة لسان بور توفيق، وبالتزامن، فى الموعد نفسه، نفذ أبطال آخرون إغارة على النقطة القوية فى منطقة القرش «شمال الإسماعيلية». وقد نتج عن إغارة لسان بورتوفيق قتل وجرح ٤٠ فردًا، وتدمير خمس دبابات وأربع دشم، وأسير واحد، دون أن تخسر قواتنا أى خسائر.
وكان قد سبقهم زملاء لهم فى الكتيبة ٣٣ صاعقة بعبور قناة السويس للإغارة على أحد مواقع العدو فى منطقة جنوب البحيرات، ونجحت العملية، وخطفت الكتيبة أسيرًا، وأصابت دبابتين، وعادت إلى مواقعها حاملة معها عينات من أسلحة العدو وألغامه.
بعد تصريح لرئيس الأركان الإسرائيلى حاييم بارليف، تفاخر فيه بأن القوات الجوية الإسرائيلية نجحت فى تنفيذ أكثر من ١٠٠٠ غارة جوية ضد الجبهة المصرية منذ يوم ٢٠ يوليو، لإجبار القوات المصرية على تخفيف حشودها على القناة وإعادة توزيعها فى مواقع بعيدة.
جاء الرد المصرى على العكس من ذلك، فاتجهت مصر إلى تصعيد القتال وتنفيذ مزيد من عمليات العبور إلى سيناء ليلًا. ومن ذلك، عمليتان نفذتهما قواتنا ليلة ١١ أغسطس ١٩٦٩ على نقطتى الدفرسوار والفردان فى وقت واحد، تكبد العدو خلالهما خسائر جسيمة.
وبعد تفاخر العدو بنجاح عملية الزعفرانة على ساحل البحر الأحمر، سرعان ما ردت عليه القوات الخاصة المصرية فى مطلع شهر أكتوبر ١٩٦٩، بعملية كبرى للمجموعة ٣٩ قتال، فى منطقة رأس ملعب، حيث تقدمت قواتنا على الطريق الساحلى فى هذه المنطقة، حتى رأس مطارمة، ونسفت جميع الأهداف العسكرية، ثم نسفت الطريق نفسه. كما وضعت ألغامًا وشراكًا خداعية فى بعض المناطق، وعادت سالمة.
فى نوفمبر وديسمبر ١٩٦٩، توسعت قواتنا فى تنفيذ عمليات الكمائن النهارية، بعد أن أوقف العدو تحركاته الليلية، تفاديًا للكمائن المصرية. وقد خطط لعمل الكمائن بحيث تعبر فى الربع الأخير من الليل، وتختفى تمامًا فى منطقة عملها، وتزيل آثار تحركاتها. ذلك أن دوريات العدو كانت تمسح الشاطئ الشرقى للقناة فى أول ضوء، بحثًا عن آثار عبور قواتنا.
وكان أبطال الكمين المصرى يعودون بعد تنفيذ مهمتهم مباشرة، تحت ستر نيران المدفعية، التى تكون جاهزة باستمرار لمعاونتهم. وقد نجحت هذه الكمائن فى ترهيب العدو، خصوصًا فى مناطق الشط والجباسات وجسر الحرش.
وشملت عمليات الإغارات المشتركة بين أفرع ووحدات قواتنا المسلحة مشاركة قوات خاصة تعبر قناة السويس. ومنها مثلًا، ما حدث ليلة ٢٨ نوفمبر ١٩٦٩، حيث نسفت القوات الخاصة بقيادة البطل إبراهيم الرفاعى طريق شرم الشيخ الطور فى منطقة جنوب سيناء، من خلال عملية إبرار بحرى وجوى.
فى ٦ ديسمبر ١٩٦٩، عبرت قوة مصرية، تقدر بنحو مجموعة كتيبة مشاة، ونجحت فى احتلال الضفة الشرقية للقناة، بعد تدمير جميع الأهداف المعادية، والاحتياطيات المحلية، ومنطقة شئونه الإدارية، مع التمسك بالأرض. وكانت هذه من أولى المرات التى يقرأ فيها المصريون على صفحات الجرائد التعبير العسكرى «نجحنا فى احتلال رأس جسر»، وهو ما سيتكرر يوميًا فى حرب أكتوبر المجيدة فيما بعد.
وكان قائد الجيش الثانى قد طلب استمرار هذه القوة فى مواقعها شرقًا، على أن يتولى الجيش تأمين أعمال قتالها، ولكن وزير الحربية أمر بعودة القوة، حتى لا يتم الخروج على الأهداف المخططة لحرب الاستنزاف. وبالفعل، عادت القوة بعد آخر ضوء يوم ٧ ديسمبر، بعد أن ثبتت العلم المصرى على الضفة الشرقية، وظل مرفوعًا تحميه نيران القوات المصرية من الشاطئ الآخر، حتى إيقاف إطلاق النيران فى أغسطس ١٩٧٠.
وفى ١٤ ديسمبر ١٩٦٩، عبرت قواتنا قناة السويس لتنفيذ كمين نهارى من أبطال اللواء ١١٧ مشاة، ونجحوا فى تدمير عربة جيب متقدمة على الطريق، وقتل أربعة أفراد، وأسر أول ضابط إسرائيلى فى حرب الاستنزاف، هو النقيب دان أفيدان، وقد حمله الجنود وعادوا به إلى الضفة الغربية نظـرًا لإصابته.
تعددت عمليات عبور قواتنا لكسر الحاجز النفسى للجنود فى مواجهة الدعاية الإسرائيلية التى حاولت أن تجعل من مياه القناة وخط بارليف أسطورة مخيفة لا جدوى من محاولة عبورها وتدميرها.
ومع نجاح عمليات العبور يومًا بعد يوم، تسابقت الوحدات والأفراد على الاشتراك فى عمليات العبور خلال عمليات حرب الاستنزاف، حتى نُفذت ١٦ إغارة وكمينًا ناجحًا على طول الجبهة، علاوة على ثلاث إغارات فى العمق «تحديدًا فى الطور وإيلات». وكانت جميع الكمائن ناجحة تمامًا، وأحدثت خسائر كبيرة فى العدو، مما اضطره إلى تحجيم تحركاته إلى أقل حد ممكن.
وفى ١١ فبراير ١٩٧٠، نفذت قواتنا كمينًا فى عز النهار، حيث نجح أبطال الفرقة ١٩ مشاة فى إحداث خسائر كبيرة فى الجانب الإسرائيلى بمنطقة شمال الشط، وتمكن الأبطال من تدمير دبابة وثلاث عربات، وقتل ١٨ فردًا، وأسر فردين.
وتنوعت الإغارات المصرية على العدو، سواء فى أسلوب التنفيذ، أو نوعية المهام. ففى ٢٥ مارس ١٩٧٠، عبر أبطال اللواء ١١٧ مشاة قناة السويس لتنفيذ كمين للعدو، ونجحوا فى تدمير دبابة وعربتى نصف جنزير، وقتل وجرح ١٥ فردًا، فى منطقة شرق الدفرسوار.
وفى اليوم التالى، عبرت القوات الخاصة قناة السويس لتدمير مواقع صواريخ دفاع جوى هوك الإسرائيلية فى منطقة شرق البحيرات، ردًا على قصف العدو لقواعد الدفاع الجوى.
بعد العدوان الإسرائيلى على أطفال مدرسة بحر البقر فى ٨ أبريل ١٩٧٠، انتقمت قواتنا من العدو بتنفيذ ٣ عمليات عبور خلال ١٢ ساعة بعد أيام من الجريمة الإسرائيلية، حيث عبرت مجموعات قتال متعددة بلغ عدد المشاركين فيها نحو ٢٠٠ مقاتل مصرى، فى مناطق الشط والكاب والبلّاح، وقتلت وجرحت نحو ٣٥ فردًا، ودمرت طابور مدرعات وعربات نصف جنزير للعدو.
يوم ٣٠ مايو ١٩٧٠، شهد واحدة من كبرى عمليات حرب الاستنزاف للثأر لأطفال مدرسة بحر البقر، حتى أطلق العدو على يوم العملية «السبت الحزين».
وقد عبر أبطالنا قناة السويس ليلًا لتنفيذ كمين فى «منطقة رقبة الوزة»، «شمال القنطرة حتى جنوب بورسعيد» بمشاركة مجموعة قتال من اللواء ١٣٥ مشاة، ومجموعة قتال من الكتيبة ٨٣ صاعقة.
واحتلت القوات بعد العبور مواقعها لاصطياد مجموعات الإجازات للجنود الإسرائيليين، التى تحرسـها قوات مقاتلة مكونة من الدبابات والعربات المدرعة. وعند الظهر، خرجت على طريق القنطرة متجهة إلى جنوب بورفؤاد مجموعة القتال الإسرائيلية، المكونة من ٤ دبابات، و٤ عربات مدرعة، وحافلتى ركاب إجازات. وكان على الكمين الرقم ١، المكون من عناصر الصاعقة، عدم التعرض لها، ويتركها تمر إلى أن تصل إلى الكمين الرقم ٢، فى منطقة جنوب التينة، حيث يفتح عليها أقصى معدلات النيران.
وجرى تنفيذ ذلك تمامًا، وأصيبت دبابتان وعربة مدرعة وحافلة. وحاول الجزء المتبقى الهروب، والعودة إلى القنطرة ليقع فى شراك الكمين الرقم ١، حيث انقضت عناصر الصاعقة لتجهز على ما تبقى من القوة. وقد أُسر فردان، ودمرت الدبابات والعربات، وقتل وجرح نحو ٣٥ إسرائيليًا.
أما أبطال منظمة سيناء العربية فنفذوا العديد من عمليات عبور قناة السويس خلال حرب الاستنزاف، بالتعاون مع المخابرات الحربية. ومنها على سبيل المثال، عملية يوم الأربعاء ٥ نوفمبر ١٩٦٩، التى شارك فيها الفدائى البطل غريب محمد غريب، الذى قال عنها فى مذكراته:
«كانت هذه من كبرى عمليات عبورنا قناة السويس فى وضح النهار بقارب مطاطى، وشارك معنا عدد من الضفادع البشرية من القوات البحرية، إلى جانب عدد من أبطال سلاح المهندسين لتأمين زرع الألغام فوق الساتر الترابى.
وكان العدو قد بدأ فى استخدام وسائل تأمين جديدة لمواجهة عمليات عبور القوات المصرية خلال حرب الاستنزاف، ومنها فكرة تركيب أسلاك رفيعة غير مرئية متصلة بألغام من نوع (بنجلور)، بحيث ينفجر اللغم وترسل إشارة إلى قوات مراقبة العدو». وعندما عبر الفدائى غريب محمد غريب مع أبطال العملية، وضعوا العبوات المتفجرة فى الطريق المنتظر مرور الدوريات الإسرائيلية عليه، لكن أحدهم أخطأ بلمس السلك غير المرئى، فوصلت الإشارة إلى قوات العدو فورًا، مما غير مسار العملية، فاضطر أبطالنا إلى مواجهة مدرعات العدو وجهًا لوجه بالأسلحة الخفيفة التى بحوزتهم، ونجحوا فى تدمير المدرعات وقتلوا ٨ أفراد من بينهم ضابط، كما أسروا جنديًا.
وفى ختام شهادته، قال البطل غريب محمد غريب إنه وزملاءه كانوا يحملون معهم منشورات باللغة العبرية جهزوها لنشرها فى محيط العملية، وحول جثث أفراد العدو، يتوعدون فيها جنود الاحتلال: «انتظروا عودتنا مجددًا فى جميع مواقع أرض سيناء».
مرت الأيام، وأوفى الأبطال بوعد قطعوه بكل اللغات، وعادوا بالفعل إلى سيناء فى «عز الضهر»، لكن هذه المرة، عبروا آلافًا مؤلفة، جيش من المنتصرين فى حرب أكتوبر، لا ينسى بطولات عبوره فى حرب الاستنزاف.