الكاتب ولاء كمال: صناعة النشر في حالة انهيار تام منذ سنوات
ما بين أول الكتب المنشورة وصولا لأحدثها، هناك حكايات عن رحلات الكتاب والمبدعين مع دور النشر، هناك صعوبان ومعوقات مع نشر العمل الأول، وهناك أيضا المشكلات المتكررة والمتشابهة بين المبدعين ودور النشر، سواء فيما يخص تكلفة الكتاب، أو توزيعه، والعقود المبرمة بين الطرفين، أو حتي حقوق الملكية الفكرية وغيرها.
في سلسلة حوارات تقدمها “الدستور” يحكي الكتاب تجاربهم مع عالم النشر.
يروي لنا الكاتب ولاء كمال تجربته مع دور النشر. و"كمال" سبق وصدر له: “أيامي مع كاريوكي”، رواية “سيد والعصابة”، رواية “القداس الأخير”، كما ترجم كتاب “راهن علي نفسك”، وكتاب “ابتعد عن المتذمر المزمن”، وغير ذلك.
ما الصعوبات التي صادفتك في طريق نشر كتابك الأول؟
بدأت أولى محاولاتي للنشر عام 2015، حين كنت قد أنهيت المسودة الأولى لروايتي الأولى "سكون". لم يكن لي أي احتكاك بالناشرين أو حتى ما يسمى بالوسط الثقافي، فقد كنت شريكاً ومديراً لإحدى الشركات الناشئة بعد أن عملت بأحد البنوك لسنوات قبلها، وبالتالي فالمناخ المحيط بي مختلف تماماً. ولذلك حين قررت نشر الرواية فعلت ذلك بسذاجة شديدة.
في مصر هناك شيء مضحك اسمه "الرد المميكن"، حيث تقوم بإرسال عملك-الذي تظن أن الناشرين سيتهافتون عليه- على البريد الإلكتروني الذي توضحه كل دار على كتبها أو وسائل التواصل الاجتماعي، ثم يأتيك رد ممكن يخبرك إما باعتذار الدار عن استقبال الأعمال حالياً، أو أن العمل قيد القراءة والمراجعة وسيتم الرد عليك، وبعضهم يشترط ألا تعرضه على أي دار أخرى لشهور حتى يتم الرد عليك، والبعض الآخر يخبرك أن خطة النشر لديه لديها أوقات محددة وحاول معنا مرةً أخرى. للأسف آلاف الكتّاب الشباب يظنون أن هذه ردود حقيقية ويبنون آمالاً عريضة عليها في انتظار الرد. في كثير من الأحيان لا يوجد أمام كاتب العمل الأول سوى أحد طريقين للنشر لا ثالث لهما في مصر: العلاقات الشخصية أو دفع كلفة النشر.
ما المشاكل التي واجهتها بخصوص حقوق النشر والملكية الفكرية؟ كيف تواجه هذه المشكلات مع الناشر؟ وما أصعب موقف تعرضت له؟
لا أدعيّ أني قد واجهت هذا النوع من المشاكل من قبل. حسب فهمي للسؤال فأظن أن المشكلة التي تواجهنا أنا والناشر معاً هي أزمة الكتب المزورة أو الإلكترونية المسربة عبر الإنترنت. هذه مأساة بكل معاني الكلمة. أعتقد أن الأمر يحتاج منّا إلى التعامل معه بتفكير منفتح ومستقبليّ. أنا لن أدعيّ الفضيلة، أنا نفسي كثيراً ما اعتمدت على الكتب الإلكترونية خاصةً الأجنبية منها التي لم تكن متوفرة في مصر، وإن كنت لم أشترِ كتاباً مزوراً في حياتي لأنني أعتبر الأمر سرقةً صريحة، والشراء يعني مساعدة المزور على التربح، ولكني أفكر بشكل طفولي قليلاً حينما أجد أمامي ملف بي دي إف متاحاً وأقول ما الضرر فهو متوفر وبدون مقابل وإن لم أقرأه سيقرأه غيري، ولكن بالطبع حين بدأت الكتابة وبدأت كتبي في التواجد عبر الإنترنت اكتويت بنار التكنولوجيا الحديثة وأصابتني تلك الازدواجية بارتباك. أفكار مثل أبجد وكيندل قد تكون حلاً. لست من دراويش الكتاب الورقي، وإذا كان الحل هو أن نتوقف تماماً عن طباعة الكتب والاكتفاء بتوفيرها إلكترونياً بسعر رمزي ولكن شرعيّ، فأنا لا أمانع، المهم أن تستمر الصناعة ويصل المكتوب لأيدي -أو هواتف وأجهزة- القراء ويقرأون.
هل سبق ووصلت خلافاتك مع ناشر ما إلي ساحات المحاكم؟
لا
هل قمت يوما بسداد كلفة نشر كتاب لك؟
في رحلتي المأساوية لنشر رواتي الأولى، وبعد رفضها أو عدم رد أكثر من عشرة دور نشر، صادفت ناشراً ذو سمعة جيدة للغاية أخبرني بأنه لا يتقاضى مبالغ مالية من أجل النشر وأنه متحمس للرواية باعتبارها أعظم الأعمال الأدبية التي خرجت من جيلي. عدم سداد الكلفة توافق مع مبدئي الذي لم أكن مستعداً للتخلي عنه، فأنا لن أدفع مقابل النشر مهما كان الثمن، ولذلك كنت سعيداً بتلك الفرصة التي ستعوضني سنوات الصبر على كتابة الرواية التي استغرقت أربع سنوات. ولكن بعد توقيع العقد بشهور طلب مني "تبرعاً" بقيمة مادية محترمة وقتها لأساعده في الاستمرار بالقيام بدوره الثقافي التنويري. كان قد مر الكثير من الوقت وأنا في انتظار رؤية كتابي يخرج إلى النور وكنت غراً وساذجاً ومخدوعاً في سمعة الناشر المحترم، فوافقت ودفعت المبلغ وأنا أغض الطرف عن مبدئي بعض الشئ، وعلى مدار عام كامل لم يخرج الكتاب إلى النور وتمت مساومتي لدفع ثلاثة أضعاف المبلغ حتى أنشر الكتاب وإلا يتم تهديدي بالعقد الذي قمت بإمضائه، في سذاجة وقلة خبرة واندفاع بالطبع، والذي لم يذكر أني دفعت مبلغاً للنشر بالطبع أيضاً، ويشترط دفع مبلغ هائل إذا ما أردت فسخ التعاقد. كانت النتيجة ضياع أكثر من عامٍ من حياتي، والمبلغ الذي دفعته في البداية، وأشهرٍ من المرارة والصراعات حتى تم فسخ التعاقد. بعد مرور سنوات بدأت أفصح عن هذه القصة فاكتشفت أن هناك عشراتٍ غيري وقعوا ضحية لنفس النمط، وأن الناشر المحترم الحاصل على عدة جوائز لديه وجهان: وجه الناشر المثقف المشارك في الحركة الثقافية، ووجه يتغذى على أحلام الشباب البائس الذي يحلم بنشر كتابه الأول. الصورة النمطية عن الناشر النصاب "تحت بير السلم" ليست حقيقية دائماً.
ما الذي حلمت به لكتاب من كتبك ولم يتحقق وتأمل أن تتداركه مع مؤلف جديد؟
سأجيب عن هذا السؤال بقصةٍ دالّة. حين صدر كتاب "أيامي مع كايروكي" كان لديّ هدف واضح: أنه كتاب موجّه لعموم القرّاء وليس محبي الفرقة فقط، لأنه دراسة تاريخية اجتماعية توثق لجيلٍ بأكمله وكل ما مرّ به من أحداث كبرى خلال الأربعين عاماً الماضية. ولكن بالطبع كان المتوقع أن الجمهور المبدئي للكتاب سيكون جمهور الفرقة من الشباب الصغار الذين "سينخدعون" بفكرة الكتاب ويقبلون على قراءته، وبالتالي أستطيع من خلال اسم الفرقة الجذاب أن أحكي لهم عن جيلي. جمهور كايروكي يقدّر بمئات الآلاف إن لم يكن أكثر، وبالتالي كانت الطموحات كبيرة.
ها هي القصة: في ثاني كبرى حفلات الفرقة التي تنظمها تحت عنوان "كايروكي إمباير" قمنا بعرض الكتاب للبيع. حضر الحفل 25 ألف شخص. طلبت من الناشر تخفيض سعر الكتاب ليصبح مماثلاً بالضبط لنفس سعر الـ"تي شيرت" الذي يحمل شعار الفرقة والذي كان يتم بيعه بجوار طاولة عرض الكتاب. بنهاية اليوم باع الكتاب سبع نسخ، بينما باع التي شيرت ما يقرب من الألف قطعة. هناك ما يقرب من ألف شخص اختاروا أن ينفقوا نفس المبلغ الماليّ على قطعة ملابس تحمل شعار فرقتهم المفضلة بدلاً من شراء كتاب يحكي عنهم. هذا التصرف الدال يخبرك الكثير عن القراءة وقدرها في مصر اليوم.
في رأيك صناعة النشر في تقدم أم تراجع؟
كلمة تراجع كلمة لطيفة للغاية. صناعة النشر في حالة انهيار تام. وهي على هذا الوضع منذ سنوات، خاصةً بعد استشراء مرض النشر الذاتي. لا يجب أن ننسى أن صناعة النشر لا تنفصل بأي حال من الأحوال عن المناخ الثقافي العام، وهو مناخ منهار بدوره على مختلف الأصعدة. ما يسمى بالمناخ الثقافي المصري اليوم يكاد يتاخم حدود الأكذوبة، وجودة المعروض في تراجع مستمر، ومعدّل القراءة سقط إلى مستويات مخيفة كنتيجة لعدم غرس وتشجيع ذلك المفهوم في النشء وظهور وسائل التواصل الاجتماعيّ. واليوم تدخل التحديات الاقتصادية وارتفاع تكلفة الورق بالصناعة إلى نفقٍ مظلمٍ جديد لا أظن أنها ستخرج منه بسهولة، خاصةً مع فشلنا جميعاً كمجتمع في حلّ مشكلة التزوير، وفشلنا يأتي ليس فقط لافتقادنا إلى ثقافة الرفض لمثل هذه الممارسات، ولكن تخاذلاً من معظم الأطراف المعنية ببساطة لأنها لا تظن أن الثقافة بشكلٍ عام قضية تستحق كل تلك المهاترات.