"كنز الأستاذ".. حوار لم يُنشر من قبل لـ"نجيب محفوظ"
- لا يوجد جيل يحتاج إلى العزيمة وقوة الشخصية إلا شباب هذا الجيل
- حزنت عندما علمت بقيام ثورة يوليو خوفًا من تكرار هزيمة عرابى
- قصصى القصيرة كان ينبعث منها صوت معارض ينتمى للنظام
- هذه هى حكاية القصة التى كتبتها ومزقتها
- أقول للأدباء الشبان: أحبوا عملكم أكثر من حبكم لنتائجه
- أطالب بإنشاء معهد لربات البيوت ومنحهن أجرًا ومعاشًا
لم يُنشر هذا الحديث مع نجيب محفوظ منذ أكثر من أربعين سنة حيث جرت وقائعه فى مارس ١٩٨٣ لسبب بسيط أنه كان الحديث الأول لكاتب هذه السطور فى مبتدئ حياته الصحفية، ومن ثم فلم يكن من المعقول أن تنشر مجلة «المصور» التى أعمل بها حديثًا مع هذه القامة الأدبية لمحرر تحت التمرين، فضلًا عن وجود رئيس للقسم الثقافى لا يمكنه أن يسمح لأحد غيره بمنافسته، ومن ثم ظل هذا الحديث مطويًا، لأننى كنت قد تجاوزته بأحاديث كثيرة بعد أن توثقت علاقتى بنجيب محفوظ، ولأننى كنت مدركًا أن هذا الحديث لن يمر فقد حرصت على مراجعته وقراءته على نجيب محفوظ، وبعد أن اطمأننت على صياغته بالشكل الذى أرضاه، تجرأت فطلبت منه التوقيع عليه «حتى يصدقونى».
وكما كان مبدعنا الكبير كريمًا حين قبل إجراء حوار مع صحفى مبتدئ، فقد وقّع بنفس الأريحية على حديثى الأول معه، ليكون وثيقة وشهادة على عظمة نجيب محفوظ وعمق قيمته وعلو قامته، ومن اللافت للنظر أنه وقع توقيعًا آخر على إجابته على دوره كناقد للنظام، فى نفس الوقت الذى ينتمى فيه إليه، مؤكدًا بقلمه إلى جانب توقيعه «أرجو نشرها».
ولا أدرى كيف احتمل نجيب محفوظ فى عمره السبعينى فى ذلك الوقت شابًا مثلى فى عمره العشرينى، ومنحنى ساعة كاملة، وكنت لأول مرة أقابله، ولكنه تعامل معى كما يتعامل مع الصحفيين الكبار، وتلك إحدى فضائله.. تشجيع الجيل الجديد، ومنحه الثقة بنفسه.. وهذا هو نص الحوار تحية لصاحب نوبل فى ذكراه السابعة عشرة.
■ سألت نجيب محفوظ ما الدور الذى يجب على الأديب أن يلعبه فى مجتمعه؟
- فأجابنى: الأديب هنا إنسان أولًا وأديب ثانيًا، فهو كإنسان حر فى تحديد انتمائه، سواء كان ذلك انتماءً لحزب أو لهيئة، وواجبه كمواطن يتحدد فى فترة معينة، فقد يكون إنسانًا متكامل الشخصية، فيجد أن انتماءه ضرورى لا مفر منه، ونوعية انتمائه تتعلق به كإنسان إذا أراد أن يكون ملتزمًا التزامًا معينًا، فتكون رسالته الاجتماعية واضحة المعالم، أما إذا أراد ألا يكون ملتزمًا بانتماء معين أصبح أدبه لا لون له، وربما كانت رسالته الاجتماعية باهتة، وإن لم يمنع ذلك من أن يكون عبقريًا إذا أمكن.
■ ألا ترى أن عدم انتماء الأديب إلى حزب أو هيئة أدعى إلى تحرر فكره وحياد رأيه؟
- هذا اختيار وليس إلزامًا.
■ هل ترى أن الأديب يكون بعيدًا عن السياسة أو قريبًا منها بقلمه وفكره؟
- السياسة فى حياة المجتمع شىء خطير، وطبعًا من الأفضل أن يشارك الأديب والمفكر فى السياسة، ولكننى أؤمن إلى جانب ذلك بالحرية.. حرية الفنان وحرية المواطن، فإذا شاء التزم، وإذا شاء لم يلتزم، وحسابه فى النهاية يكون على هذا الأساس.
■ هل هناك ما يمكن أن نسميه الأدب السياسى؟
- طبعًا يوجد أدب سياسى، كما يوجد أدب اجتماعى وأدب عاطفى، ويوجد أيضًا أدب يتطلع إليه السائرون فى العصر الحاضر، وهو الأدب الصافى الذى لا علاقة له لا بالتاريخ ولا بالمجتمع ولا بالأحداث.
■ وهذا الأدب الذى تصفه.. ماذا يسمى؟
- يسمونه القصة الحديثة، ويسمونه اللارواية، ويسمونه أسماءً كثيرة، وكل يجتهد على قدر طاقته.
■ هل ترى أن أدبنا العربى يعبر عن واقع المجتمع أم ينفصل عنه؟
- أدبنا العربى فى أغلبيته يعبر عن واقع المجتمع ويثير قضاياه يمينًا ويسارًا منذ النهضة الحديثة حتى الآن.
■ ما نوعية الأدب السائد فى الوطن العربى؟
- الأدب الملتزم، وهو الغالب فى البلاد العربية، وقد ساير الحركة الوطنية، والحركة الاجتماعية.
■ انتصار أكتوبر.. هل استطاع الفكر العربى أن يعطيه حقه من الاهتمام؟
- ربما كان لحرب أكتوبر أثر غير مباشر فى أدبنا الذى اتخذ روح النصر طابعًا ودافعًا، وأعتقد أن أول عمل كتبته بعد حرب أكتوبر هو «ملحمة الحرافيش»، كان فيها أثر غير مباشر.
وعمومًا فالأحداث وانعكاساتها فى الأعمال الأدبية الكبيرة مثل المسرحية أو الرواية تحتاج لفترة نمو طويلة، بعكس القصة القصيرة أو القصيدة أو الأغنية، فهى تأتى أحيانًا من وحى الانفعال باللحظة.
كذلك أحب أن ألفت نظرك إلى أن الهزيمة يمكن أن تكون أشد أثرًا فى الانتاج الأدبى من النصر، لأن الهزيمة تترك النفس محرومة وجائعة، ومتطلعة ومتحفزة للعمل والإنتاج تعبيرًا عن الآلام، والمعاناة النفسية، مما قد يكون متنفسًا للأديب، ولذلك تجد أثر هزيمة ٥ يونيو أكبر بكثير فى الأدب والكتابة من نصر ٦ أكتوبر، وليس السبب أننا نهتم بالهزيمة أكثر من النصر، ولكن لأن النصر فيه إشباع نفسى يغنى عن التعبير عنه بخلاف الهزيمة.
■ كيف عشت إذن أحداث هزيمة ٦٧؟
- طبعًا كان حالى حال جميع المصريين الوطنيين، كلنا مطحونين وكلنا حزانى وظهورنا مقصومة، والغمة تغيم على كل بيت، لأننا دخلنا المعركة والهزيمة أبعد شىء عندى وعند أذهان غالبية المصريين، لأننا كنا نشاهد اللقاءات الصحفية للرئيس عبدالناصر، والتى كانت تؤكد على الثقة والأمل فى نفوسنا، وأننا أكفاء لمواجهة إسرائيل، ولكن حدثت الهزيمة، ولم يكن الخوف من إسرائيل وإنما خوفنا من أمريكا، وأنت تعلم أنه لولاها على إسرائيل فى حرب مثل حرب أكتوبر لتغيرت كفة الحرب، إلى أبعد ما وصلنا إليه من نتائج.
■ بم تفسر روح التحدى التى جعلت الشعب المصرب يرفض الاستسلام للهزيمة؟
- الأمر لا يحتاج إلى تفسير، لأن حضارة السبعة آلاف سنة لا يمكن إلغاؤها نتيجة محنة الهزيمة، إنها روح الحضارة التى جعلت شعبنا يحتفظ بتوازنه خلال فترة قاسية من فترت تاريخه.
■ مذابح صابرا وشاتيلا التى ارتكبتها إسرائيل فى لبنان.. ألا تنوى التعبير عنها فى عمل أدبى كبير، وما أثر ذلك على عملية السلام؟
- أحداث صابرا وشاتيلا أحداث شنيعة جدًا، سيحتفظ بها التاريخ فى أسود صفحاته.
أما عن أثرها فى الكتابة، فطبعًا لا أدرى عن ذلك شيئًا، ولا أدرى بأى صورة يمكن أن أعبر عن هذه المأساة الوحشية سواء فى المستقبل القريب أو البعيد.
ولا شك أن احتلال إسرائيل للبنان ومذابح صابرا وشاتيلا، قد هز ثقتنا فى السلام هزًا عنيفًا جدًا، فنحن كنا نظن أنه بعد أن وضعت مصر كأكبر دولة عربية يدها مع إسرائيل من أجل السلام، أن مثل هذه التصرفات قد انتهت، وأن عقلية أخرى حلت محل العقلية القديمة، ولكن ليس من شك فى أن الحزب الحاكم فى إسرائيل يؤكد سوء ظن العرب الذين رفضوا السلام.
■ هل ترى بذلك أن السلام خطأ يجب إصلاحه بالعودة إلى ما كنا عليه قبله؟
- لم أقصد إلى ذلك، ولكن إذا كان يوجد فى إسرائيل من لا يؤمنون بالسلام وفائدته، فإنه يوجد على الجانب الآخر من يؤمنون بالسلام وجدواه، وهذا الجانب قد أثبت وجوده بالاحتجاج وبالمظاهرت وبالمعارضة، وأنه يريد السلام حقًا، وأنه يتلاقى مع مريدى السلام من العرب.. والأمل فى السلام الشامل رهن بالتعامل مع هذا الجانب، والذى سينتصر فكره فى النهاية مع الزمن، على الفكر الأسود القابع فى إسرائيل.
■ تقييمك لتقرير لجنة كاهان الذى ألقى مسئولية مذابح صابرا وشاتيلا على شارون وحده.. ألا ترى أن هذا تزييف للحقائق؟
- لا شك أن لجنة كاهان مهما قلت دلالة على وجود ديمقراطية حقيقية، وأن الرأى العام الإسرائيلى ما زالت به بقية من قيم أخلاقية صادقة، أقول هذا رغم أن النتيجة طبعًا ليست فى مستوى التقرير، فما كان يجوز لمثل شارون أن يبقى فى الوزارة، بل ما كان يجب للوزارة كلها أن تبقى، وكان يجب عليها أن تقدم استقالتها وتحتكم إلى الرأى العام.. هل تبقى أم لا؟، ولكن يجب ألا ننسى أن مسئولية إسرائيل هنا ليست كل المسئولية، فالذين باشروا المذابح ونفذوها كانوا من حزب الكتائب اللبنانى، لأننا فى خضم انفعالاتنا ننسى دائمًا المجرم الأصلى، لأننا ركزنا على الشريك.
■ ولكن لولا التسهيلات التى قدمها الإسرائيليون للكتائبيين ما استطاعوا أن يباشروا المذابح؟
- لا يمكن الدفاع عن أى طرف له علاقة بالمذبحة بأى حال من الأحوال.
■ هل تتفق مع من يقولون إن مصر قد أخطأت بسيرها منفردة فى طريق السلام فقاطعها العرب؟
- الحقيقة أن العلاقات المصرية العربية لم تكن على مستوى الأحداث، مما اضطر الرئيس الراحل أنور السادات إلى أن يتخذ خطوة منفردة بعد يأسه من العرب.
■ أريد مزيدًا من التوضيح يا أستاذنا؟
- إذا أردت توضيحًا فقارن بين معاونة العرب للعراق «فى حربها مع إيران» ومعاونتهم لمصر، تجد أنهم لم ينظروا إلى أزمتنا الاقتصادية نظرة صحيحة مما تقتضيه الزمالة والأخوة والعروبة والمصير الواحد، وكل ما يقال عن الوحدة العربية- ولكن العمل المشترك العربى ضرورة لا مفر منها لخير الجميع، فلا الغضب ولا الأخطاء يجب أن تنسينا هذا.
■ أين تكمن أسباب مشاكل العرب.. ومن أين تكون البداية الصحيحة لجمع شمل الفرقاء العرب؟
- مشاكل العرب تكمن فى تغليب السياسة على أمور أخرى اقتصادية وثقافية.. ولما كانت الأنظمة السياسية مختلفة، والأطماع كثيرة، فإنها تفسد الأشياء الأخرى، إنما لو أجلنا السياسة ولم نفكر فيها إلا باعتبارنا زملاء فى جامعة عربية، أو هيئة الأمم المتحدة، وركزنا على الاقتصاد والثقافة.. ولا اعتراض على ذلك من ناس عقلاء.. فسوف تجد أن اتفاق العرب سياسيًا سيتحقق بشكل طبيعى.
■ ما تحليلك لوضع القضية الفلسطينية؟
- الحقيقة أن الفلسطينيين الآن، وقد ملكوا قرارهم، يجب أن يضعوا أيديهم على أى أرض لهم، وألا يفرطوا فى الوقت، وإلا ضاعت المسألة من أيديهم إلى أجل غير مسمى، ويجب أن ينتهزوا الفرصة، وأن يرضوا بالممكن، ولا يتمسكوا بالمستحيل، وأن يعلموا أن التاريخ ليست له كلمة نهائية أبدًا، وأن يستفيدوا من دروس الماضى وما كان.
■ التحديات الفكرية التى تهب على مجتمعنا من الغرب ومن الشرق.. كيف ترى تأثيرها على الفكر المصرى بصفة خاصة والفكر العربى بصفة عامة؟
- الفكر ليس فيه تحد، وليس فيه شر، وليس فيه انغلاق، فأنت لك فكر والآخرون لهم فكرهم، وهذه الأفكار يجب أن تتلاقى دائمًا وأبدًا، وستجد أن من صالحك أن تأخذ بالجيد من الفكر من الشرق كان أم من الغرب، فليس هناك هزيمة أو نصر فى الفكر، إنما فيه الأفضل والأحسن والأقل درجة، ونحن قوم لنا تراثنا ولنا تاريخنا ولنا عقولنا، فلا نخشى أبدًا من أى معركة فكرية، لأن المعركة الفكرية دون المعارك كلها ما دامت فى إطار الفكر، فالخاسر فيها رابح.
■ المراحل التى مر بها التاريخ المصرى منذ فجر ثورة ٢٣ يوليو حتى الوقت الحاضر.. هل لك أن تضعها فى الميزان لتقيمها لنا إيجابًا وسلبًا؟
- فى كل مرحلة من مراحل هذا التاريخ كانت لها إيجابياتها وسلبياتها.. فقد تحققت فى عهد عبدالناصر إنجازات كبرى مثل الجمهورية والاستقلال والتصنيع وتغيير التركيب الطبقى للمجتمع، وبإحداث التوازن بين أفراده.
وفى عهد السادات حقق إنجازات كثيرة مثل النصر والسلام والاتجاه نحو الديمقراطية، وكان من سلبياته الانفتاح الاستهلاكى الذى كاد يخرب البلد سواء فى اقتصادها أو أخلاقها، ثم النكسة الديمقراطية التى انتهت بمأساة اغتياله.
■ هل أتيحت لك فرصة معرفة الرئيسين ناصر والسادات عن قرب؟
- نحن التقينا مع الرئيس عبدالناصر فى «الأهرام»، زارنا أظن عام ١٩٦٩، وكان لطيفًا جدًا فى هذا اللقاء الذى كان لقاء مجاملات، أما السادات فقد قابلته قبل أن يصبح رئيسًا للجمهورية فى مؤتمرات جمعتنا ولا أذكرها الآن، وكان هو الذى شاهد فيلم «ميرامار» وسمح بعرضه بعد أن صادره الاتحاد الاشتراكى، وكان فى الحقيقة فى كل لقاء يجاملنى مجاملة لطيفة جدًا، ولذلك عندما كتبنا العريضة التى تهاجمه غضب غضبًا شديدًا جدًا، فلم يكن ينتظر منى على الأقل أن أكون من الموقعين عليها.
■ ما حكاية هذه العريضة التى وقعت عليها وأثارت غضب الرئيس السادات؟
- كانت هذه العريضة قبل حرب أكتوبر، ولم يبد أن هناك أملًا لا فى حرب ولا فى صلح، وهذا الرأى أعلنته فى اجتماع فى «الأهرام» كان يستضيفه الرئيس الليبى معمر القذافى الذى سأل الحاضرين عن الوضع الراهن أيامها، وقال نعمل إيه؟ قلنا له: نحارب، قال: الحرب غير ممكنة، قلنا له: نفاوض- وكان مبدأ المفاوضة مرفوض ونحن منهزمين، فأصبحنا فى وضع غريب لا هو حرب ولا هو سلام، لذلك لم أتردد فى التوقيع على عريضة بهذا المعنى، عندما دخلت يومًا على توفيق الحكيم فقال لى: اقرأ يا نجيب هذه الورقة، وقل لى رأيك فيها، فوافقت على التوقيع عليها، والحقيقة أن هذه العريضة عملت فرقعة سيئة عند السادات، ولم نكن ندرى أن الرجل كان يدبر سرًا للحرب، لهذا لم يترك مناسبة بعد ذلك إلا وحمل علينا وهاجمنا.
■ هل ترى أن السادات قد تغير عندما صار رئيسًا عنه قبل ذلك عندما التقيته؟
- ظل السادات محتفظًا بشخصيته المصرية البسيطة حتى أواخر أيامه، فتغير بعد الغضبة الكبرى التى انتهت معها حياته.
■ لماذا لا ندين عهدًا من العهود إلا بعد زواله؟
- أولًا.. ليس صحيحًا أننا ندين عهدًا من العهود إلا بعد زواله، وثانيًا.. نحن عبرنا عن آرائنا التى نؤمن بها، وأدبنا يشهد على ذلك بتاريخه، وعن نفسى أقول فإن قصصى القصيرة دائمًا كان ينبعث منها صوت معارض ولكنه ينتمى للنظام، ترى ذلك فى «ميرامار»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«الخوف» وغيرها.. فلا تستطيع أن تقول إننا لا نتكلم عن عهد من العهود إلا بعد زواله.
■ الحياة الديمقراطية السليمة.. ما الأسس اللازمة لتحقيقها، وما تقييمك للديمقراطية التى نعيشها الآن؟
- الديمقراطية التى نتمتع بها الآن هى تحول من نظام شمولى نحو الديمقراطية، فنحن فى مرحلة بين المرحلتين، وحتى نسير نحو ديمقراطية حقيقية لا بد من إعادة النظر فى الدستور، وإلغاء جميع القيود التى تحول دون تأليف الأحزاب، وإلغاء القوانين الاستثنائية.. وبذلك تتم الديمقراطية الحقيقية المطلقة فيما يتعلق بكل شىء إلا النشاط الاقتصادى يكون منضبطًا.
■ ما نوع الديمقراطية التى تطالب بها؟
- نحن لا نريدها ديمقراطية ليبرالية، وإنما نريدها ديمقراطية اشتراكية، يكون لمصر فيها من الأحزاب ومن الآراء ما تشاء، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ومن أقصى الإيمان إلى أقصى ما عداه.
■ إلى أى حد تعكس الصحافة نبض الشارع المصرى؟
- الصحف ما بين جرائد قومية وجرائد معارضة تبحث واقع المجتمع وكل ما يدور فيه، وتعبر عن واقعه وآماله وأمانيه.
■ كيف ترى القتال بين المسلمين فى العراق وإيران؟
- إنها من أكبر الحماقات فى القرن العشرين، لأن الدولتين دخلتا حرب بصرف النظر عن البادئ بها، وهما تعرفان أنها ستكون خرابًا عليهما، وستكون فى النهاية لصالح غيرهما، ومع ذلك مستمرتان فى هذه الحرب، ولا أعتقد أن هناك أذى للنفس بعد ذلك.
■ وكيف ترى غزو روسيا لأفغانستان؟
- لا تحسب أن غزو روسيا لأفغانستان لأن فيها مسلمين، لأنه لو فيها مسيحيين لحدث الغزو أيضا لموقعها الاستراتيجى، ولكنى لا أنكر أن إسلاميتها كانت من العوامل المساعدة.
■ ما تقييمك لما يحدث للمسلمين فى الهند؟
- ليست الهند هى السبب، إنما ارجع لأصل الأحداث، تجد تاريخيًا أن باكستان لما استبدت ببنجلاديش حدثت الهجرة التى نتجت عنها هذه المآسى، لأنك تجد فى الهند نفسها عشرات الملايين من المسلمين لم يحدث لهم ما حدث لإخوانهم الذين نتج عن هجرتهم اهتزاز التوازن الأصلى الموجود للسكان.
■ فهل هو عصر الظلام بالنسبة للمسلمين؟
- ولماذا لا تذكر المضطهدين فى جنوب إفريقيا، وفى أمريكا اللاتينية، أليسوا بشرا؟.. إنه عصر ظلام بشرى، أما الإسلام ففيه الآن صحوة، فهذا العصر ليس من عصوره المظلمة فى حد ذاته، إنما الإنسانية كلها فى ظلام كثيف نتيجة الحروب المشتعلة هنا وهناك، والإنسان هو قاتل نفسه.
■ كيف السبيل ليخرج المسلمون مما هم فيه من دعة واستكانة؟
- هذه ليست مسألة المسلمين، وإنما هى مسألة العالم الثالث إن لم يعرف كيف يحل مشاكله بغير طريق الحرب، سيظل خرابًا، لأنه فى الواقع يعمل لحساب غيره سواء روسيا أو أمريكا، هذه هى الحقيقة، والنتيجة أرواح تُفقد وأموال تهدر وديون تتراكم، وبعد ذلك تجد أن كل دولة من دول العالم الثالث تختار التبعية الاختيارية لدولة عظمى حتى تسلحها بالتالى وتوجهها، فأصبح العالم الثالث من خوف الموت فى موت دائم، فإن لم يعرف يحل مشاكله بغير الحرب سيظل مستعبدًا للفقر وللدولتين العظميين.
■ على من تقع مسئولية التهاب العالم بالحروب؟
- المسئول ليس فى حاجة إلى الإشارة إليه، لأنه معروف، إنهما الدولتان الكبيرتان، فكل منهما لا تريد أن تواجه الأخرى، فتشعلان وراء الكواليس حروبًا جانبية، فى حدود حرب تقليدية تجنبهما المواجهة، وفى الوقت نفسه تحقق لهما أغراضهما السياسية.
■ يثار على ساحة الفكر اليوم حديث عن الإسلام كنظام للحكم خاصة فى الفترة التى أعقبت نجاح الثورة الإيرانية، فهل يشارك أديبنا الكبير فى مناقشة هذا الموضوع؟
- الإسلام من الناحية السياسية كان تجربة ناجحة ومثالية مدة ثلاثين عامًا لا أكثر ولا أقل، هى عهد الرسول وأبوبكر وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان- مع التسامح- وعلى بن أبى طالب، وبعد ذلك أصبحت دولة الإسلام مثل أى إمبراطورية فى العالم، شعارات مرفوعة جميلة، ونظام حكم مستبد يعانى فيه الناس معاناة شديدة، ويغلب عليه الفساد.
■ هل ترى العيب فى الإسلام أم المسلمين؟
- ما دامت التجربة أثبتت أن تطبيق نظام الحكم الإسلامى تجربة مثالية فى الفترة التى طبق فيها بأمانة، يصبح العيب من المسلمين لا من الإسلام، لكن المشكلة هى.. هل المبادئ التى كانت صالحة قبل ١٤٠٠ سنة تصلح الآن؟، طبعًا كمبادئ عامة للخير مثلما أقول الأمر شورى هذا نعم، وهذا مبدأ قائم وأبدى، إنما كل ما يتعلق بالزمان والمكان يجب أن يكون فى يد المسلم المعاصر، ولقد قرأت فى «المصور» فى حديث بين الأستاذين عمر التلمسانى ومصطفى مرعى أن من المسلمين الصادقين المجتهدين من يرى فصل الشريعة عن العقيدة، إن صح هذا فهو خير ما يتبعه المسلم، وعلى ذلك تصبح المسألة هى الاحتفاظ بالعقيدة وبالمبادئ العامة كمصابيح مضيئة، وبعد ذلك فنحن أدرى بأحوال دنيانا، وعلى ذلك تكون التجربة التركية تجربة إسلامية، كما أن التجربة الإيرانية تجربة إسلامية من نوع آخر.
وقد سمعت أنه فى ذكرى الاحتفال بالنحاس باشا نادى الوفديون بمبادئ الحكومة العلمانية.. إذن هذا اجتهاد إسلامى أيضًا، وهو خير ما يناسب العصر فى رأيى.. والله أعلم.
■ أو تصلح طبيعة المجتمع فى مصر لتطبيق نظام الحكم العلمانى؟
- لقد جرب مجتمعنا أسلوب الحكم العلمانى طوال عمره، ولم يجىء الفساد من الحكومة العلمانية، كما أن الفساد قبل ذلك لم يجىء من الدين، إنما جاء الفساد من الانحطاط الحضارى الذى عشنا فيه أيام الاستعمار والنظام الملكى.
■ ألا ترى أن تطبيق العلمانية يقتضى تغيير الدستور الذى ينص على أن دين الدولة الأساسى هو الإسلام؟
- ليتغير الدستور فى لفظه، لكن يصح أن تحافظ على روحه، وكما قلت لك فإن المبادئ العامة فى الدين التى تصلح لكل زمان ومكان من الممكن الاسترشاد بها، ما دامت لا تتعارض مع الديمقراطية، ولا تتعارض مع الاشتراكية ولا مع الحرية ولا مع كرامة الإنسان، ويكفينا هذا.
■ إذن أنت لا تؤيد من ينادون بتطبيق الشريعة الإسلامية؟
- لا أؤيد من يحاول الرجوع إلى الوراء، لأن الرجوع إلى الوراء مستحيل ووهم.
■ كيف تنظر إلى إسلام المفكر الفرنسى جارودى؟
- الحقيقة هى أن رجلًا دخل الإسلام، ولكن تصادف أن هذا الرجل «خواجه»، ونحن عندنا «عقدة الخواجة»، وهو شيوعى ونحن أيضًا عندنا عقدة الشيوعى، فأعطينا المسألة وزنها، وطبعًا لأنه رجل غير عادى، فإن دخوله الإسلام له مبرراته، فيصبح هذا مكسبًا كبيرًا للإسلام، لأن هذا يدل على الأقل أن مفكرًا مثل جارودى وجد فى الإسلام ما لم يجده فى الشيوعية الشرقية، ولا فى الليبرالية الغربية.
■ كيف تنظر إلى مستقبل حركة عدم الانحياز؟
- أنا لا أفهم حقيقة هذه الحركة، فما أراه مجموعة من الدول المنحازة، اجتمعت وأسمت نفسها حركة عدم الانحياز، وكل دولة منها إما منحازة إلى روسيا أو لأمريكا، ولكنها حرة فيما تنتمى إليه، على أن ما يهمنى هو أن هذه الحركة إذا استطاعت أن تصفى خلافات العالم الثالث وتجنبه الحرب، تكون بذلك قد أدت أكبر خدمة للإنسانية.
■ تميز شعبنا بالمودة والمسالمة، لكنه فى فترة من تاريخنا حدث نوع من التوتر مشوب بالعنف فكيف تحلل هذه التحولات؟
- سيدى.. فيه قانون الفعل ورد الفعل، والاتجاه نحو العنف والإرهاب وإلغاء الشخصية وإلغاء الرأى، والنتيجة الطبيعية لكل هذا هو العنف، والرد عليه بإطلاق الحريات، وإن الشباب يلعب دوره ويتحمل مسئوليته، ويبدأ يفكر تفكيرًا صحيحًا بدلًا من أن يفكر فى التخريب، لأنه لا يجوز إهدار قوة الشباب، حتى لو أخطأوا، فهم قوة بجب ألا تتعطل، إنما تتحول للإنتاج بأى شكل كان لخير المجتمع.
■ كيف تفسر الشكوى من عدم كفاية الإمكانات للاحتياجات؟
- ارجع لسنة ١٩ تجد نهضة اقتصادية قامت بالرأسمالية الوطنية، ونهضة سياسية، لكن العراقيل التى وضعها الاستعمار والسرايا، لولاها لاستمرت النهضة السياسية والاقتصادية، وارجع أيضًا إلى عهد عبدالناصر تجد أن الخطة الأولى للتنمية سارت فى طريقها الصحيح، وبعد ذلك تجد أن الحروب التى انشغلت بها مصر قد عطلت إلى حد كبير أسباب النهضة الاقتصادية والسياسية، ثم ارجع إلى عصر السادات تجد أنه حارب وانتصر، وبدأ الطريق نحو السلام، ولكنه ضيع المكاسب التى كان يمكن تحقيقها بعمل الانفتاح، والانفتاح فى حد ذاته ليس عيبًا، ولكنه تحول من انفتاح إنتاجى إلى انفتاح استهلاكى، وهذا هو العيب، مما جعل البلد يقع فى يد الانتهازيين.
■ وإلى أين الطريق كى تكفى إمكاناتنا احتياجاتنا؟
- ما نريده هو وجود قوة رقابة رشيدة. والرقابة الرشيدة لا تتأكد ولا توجد إلا فى وجود الديمقراطية، فأنت تعرف حجم إمكانات البلد وقوته البشرية، وتخطط لها وتنظمها.
ومن الغريب أننا بدأنا نهضتنا قبل اليابان، فانظر أين هى اليابان وأين نحن الآن، والفرق أن اليابان سارت فى خط مستقيم، ونحن كلما سرنا تعثرنا ووقعنا، صحيح كان فيه قوى خارجية تضربنا، لكن نحن الذين شجعناها واستسلمنا لها ووقعنا فى حبائلها.
■ كيف شجعنا القوى الخارجية على أن نقع ونتعثر؟
- لكى تعرف ذلك انظر إلى محمد على، بدلًا من أن يركز على مصر أراد أن يقيم إمبراطورية، فطبعًا أى إمبراطورية تسمح له بهذا؟!
ونفس موقف عبدالناصر أضاع قوته خارج مصر- يعنى نحن داخلين بفتونة لسنا على قدرها، بينما لو عكفنا على أنفسنا نستطيع أن نصل إلى ما نريده، ومثلما تعرف فإن اليابان عكفت على نفسها حتى أصبحت قوة اقتصادية كبرى، وبدأت تتحدى الولايات المتحدة أكبر قوة فى العالم.
■ ماذا ينقصنا لنلحق بالمجتمعات المتقدمة؟
- إنك تستغل إمكاناتك وقوتك، وتشغل الناس كلها، لأن الناس لا يستطيعون أن يعملوا كلهم، ويستثمروا أحسن استثمار لخير الوطن، إلا بعد أن تكون قد اعترفت بهم كناس لهم كرامة ولهم حرية، فالأساس هو الديمقراطية بشرط أن تكون منضبطة من الناحية الاشتراكية، من أجل توزيع العدالة على الناس، وهذا يكون أساس تحريرهم أيضًا من الفقر، وينطلق البلد ويصبح على مستوى كبير من التقدم، لأن عندنا إمكانات تجعلنا فى حدودنا متقدمين جدًا، ولا يجوز أن نطمع فى أكثر من هذا، فلا نحن دولة عظمى ولن نكون دولة عظمى، وإنما نكون دولة متحضرة، لأننا فى زمن السيادة فيه للعلم وللتفوق العلمى، يعنى بلد مثل السويد، الاتحاد السوفيتى ينقل عنه التكنولوجيا.. فالمتفوق علميًا اليوم هو المتفوق، لا الإمبراطوريات، ولا فتونة ولا أى شىء من ذلك.
■ هل ترى أن أسس الحضارة الحديثة القائمة على العلم والتكنلوجيا كافية لإسعاد البشرية؟
- الحضارة ليست علمًا وتكنوجيا، ولكنها قيم ومبادئ أيضًا، فإذا انهدم جانب تهدمت الجوانب الأخرى، والحضارة الحديثة فقدت قيمًا مثل القيم الدينية، فإن لم تكن تجدد روحها وترجع إلى الدين، أو تستبدل به قيمًا فى قوتها، فإنها تنهار.. لأننا يجب أن نسأل من الذى صعد إلى القمر؟ لا بد أن يكون إنسانًا فى سلوكه الحضارى، وإلا أفسد القمر كما أفسد الأرض.
■ فى الفترة الأخيرة ظهرت طبقات أثرت ثراء فاحشًا بعد أن كانت لا تمتلك شيئًا.. والشعب يرى ويسمع ويصدم.. ما تعليقك؟
- الثروات التى تحققت لهذه الطبقات، جاءت نتيجة صفقات سريعة، واستيراد وبيع بأضعاف الأثمان، فهم لم ينتجوا، فأتت ثرواتهم بعيدة عن الطريق الشرعى، فأصبح هناك ناس من أصحاب الملايين، أموالهم كلها على حساب الشعب ومعاناته.
■ ما الدور الذى ترتئيه للشعب ليواجه مثل هذه الأمور؟
- الشعب يجب أن يسمع صوته بالطريق المشروع، وأن يسمح له بذلك عن طريق القنوات الشرعية الموجودة، لأنه يجب إن الدولة تُشعر المواطن أنه موجود، وأن له مطالب يستجاب لها، وأن تكون المطالب معقولة.
■ قضية عالمية الأدب العربى من عدمها والتى تثار من وقت لآخر.. هل لك رأى فيها؟
- أنت عندك ٦٠ بالمائة أميون، وأنت تُعلم أولادك من غير ما تربيهم تربية ثقافية ولا ذوقية، وتعتنى بأشياء كثيرة دون أن تعتنى بالكتاب والفن الرفيع.
وأعتقد أنه على رأس أسباب الأزمة الثقافية فى مصر هى أزمة الحرية، فالمفكرون لم يجدوا الحرية الكاملة لطرح نظريات جديدة فى الفكر، وهذا شىء واضح، حيث لا يوجد فكر جديد، وإذا حدث وتقدم أحد بفكرة جديدة، يجد نفسه فى نوع من المحاكمة سواء أمام الجمهور، أم أمام الدولة، كما أن الانفتاح العام صاحبه انغلاق ثقافى، فلا تجد المكتبات عامرة بالكتب العالمية، ولا تجد من يتحدث عن الثقافة فى العالم، وأصبحنا منغلقين ثقافيًا على أنفسنا، وحتى داخل حدودنا المحلية تجد تجهيلًا تامًا للمواهب الجديدة والنقد الجديد، وفى السنوات الأخيرة لا نجد بارقة أمل سوى وعود عن سلاسل جديدة فى الفكر العربى والعالمى، ونشاط جديد فى هيئة الكتاب، ومجلات جديدة، فى شكل وعود يتم تنفيذها ببطء شديد جدًا، فإذا ما أضفنا إلى كل ذلك الأزمة الاقتصادية وغلاء سعر الكتاب، تكتمل الصورة من بدايتها إلى نهايتها، فيما يتعلق بأزمة التكوين الثقافى، فكانت النتيجة أن وجدنا أجيالًا لا تهتم بالثقافة، أو أن الثقافة لا تلعب دورًا أساسيًا وجوهريًا فى حياتها، فترتب على ذلك أنه حتى أدبنا المحلى لم يصل إلى المحلية كما يجب أن تكون، فلا توجد أشكال أدبية، ولا توجد أصالة مائة فى المائة، ولا يوجد جمهور قارئ، فإذا وجدت هذه الأشياء نفكر بعد ذلك فى العالمية، وإن كنت أرى أن همومنا الثقافية يجب أن تشغلنا عن التفكير فى العالمية، حتى نتنفس المحلية أولًا.
■ ألا يوجد من أدبائنا رواد جيلكم مَن تجاوز حدود المحلية؟
- أنا لا أشك فى هذا، وإنى مؤمن بأن توفيق الحكيم لا يقل عن ماركيز بأى حال من الأحوال، إن لم يكن يفوقه، أو أن توفيق الحكيم لا يقل عمن أخذ جائزة نوبل، وكون ماركيز حصل عليها هذا لا يغير من رأيى فى قيمة توفيق الحكيم.
■ من تعتقد أنه يمكن أن يكون خليفة لكم أو لغيركم من كبار رجال الأدب والفكر؟
- المواهب موجودة ومتوافرة وجيدة، وهذا الأمر لا أشك فيه، ولكن يجب أن يصاحب ذلك جمهور يقدر هذه المواهب، لأن الأساس أن يوجد الجمهور الذى يدشن هذه الأسماء التى يمكن أن تكون لامعة، فالجمهور هو الذى يعترف بالمفكر ويعطيه حقه فى الوجود، وهذا أهم من النقد أو أى أشياء أخرى.
■ كيف تعلل تحول مركز الإشعاع الثقافى عن مصر إلى البلاد العربية فى شكل مجلات تغزو مصر؟
- أسباب هذا التحول اقتصادية فى الغالب، ولكن إذا كانت المجلة والكتاب والنشر والطبع والتنظيم كله عربى، فإن الفكر لا يزال مصريًا فى الغالب.
■ ألا ترى أن الإذاعة والتليفزيون تتحمل مسئولية كبيرة فى تدهور الكتاب كوسيلة مهمة وأساسية من وسائل نشر الثقافة؟
- الإذاعة والتليفزيون قد تطغى على الكتاب، لكنها لا تطغى على الثقافة، لأن الثقافة والكتاب يمكن التعبير عنها من خلال الإذاعة والتليفزيون، ولو بدرجات متفاوتة، فلو كانت هناك ثقافة فإنها تزدهر سواء بالكتاب أو بغيره من الوسائل، ثم إن الإذاعة والتليفزيون بالنسبة للجمهور هى معجزة ثقافية، لأن أى شىء تعرضه هذه الأجهزة بالنسبة لبلد أكثر من نصفه أميين على الأقل، إذا أخذنا بإحصاء وزير التربية والتعليم، يصبح كل ما تذيعه الإذاعة المسموعة والمرئية ثقافة تسهم فى تكوين شخصية هذا الجيل من الأميين، وهى فى نفس الوقت ثقافة خاصة لا بأس بها، بصرف النظر عن آراء خاصة المثقفين فيها، لأن دور هذه الأجهزة لا يمكن أن تقوم به قوة ثقافية فى الدنيا ولا فى الأحلام، ولذا يجب أن نشكرها على هذا الدور.
■ هل تقول هذا بصرف النظر عما تقدمه هذه الأجهزة من نوعية المادة المذاعة؟
- اسأل الجمهور، أما خاصة المثقفين فلا تسألهم ولا تهتم بكلامهم، لأنهم يتكلمون فى نطاق ما يجب أن يقال، لا ما ينبغى أن يقال، أما أنا فراضٍ عن الإذاعة والتليفزيون، وممتن بهما بالنسبة للخدمات التى يؤديها كل منهما لشعبنا، وما كان يمكن أن تؤديه وسيلة أخرى.
■ هل أنت راضٍ عما وصلت إليه الأغنية بشكلها الذى هى عليه الآن؟
- أكاد أقف بالأغنية عند أم كلثوم وعبدالوهاب، ولكننى أطرب حقيقة لفيروز وعفاف راضى، وهناك تجارب كثيرة مثل الفرانكو آراب، وآراب فرانكو أرجو أن تتمخض عن شىء أصيل.. وألمس فيما يقدمه عمار الشريعى شيئًا جديدًا يبشر بالأمل.
■ وشرائط الكاسيت التى تغرق السوق.. ألا تدل على أن هناك أزمة فى الأغنية؟
- ليست هناك أزمة فى الأغنية لأن هذه الأغانى المنتشرة أغان شعبية، وكانت هناك دائمًا أغانٍ خاصة وأغانٍ شعبية، والأغانى الشعبية مثل أغانى عدوية وغيرها هى أغانٍ جميلة وتعبر عن ذاتها تعبيرًا جيدًا ولها رسالة لا شك فى هذا، وهى مستمرة من أيام شكوكو وإسماعيل ياسين، وقبلهما كانت موجودة عند العوالم ممثلة فى الطقاطيق، وهى تراث شعبى جميل له وظيفة ولا بد منه.
■ ما نوعية قراءاتك بعيدًا عن الأدب؟
- أقرأ كل شىء.. فلسفة وسياسة وتصوف ودين وكتب حضارة، ومن الممكن أن يكون أقل شىء أقرؤه هو الأدب.
■ وأين نصيب الشعر من قراءاتك؟
- أقرأ الكثير من الشعر، ولى أصدقائى الدائمين من الشعراء الذين أقرأ لهم مثل طاغور والحافظ الشيرازى.
■ من الذين تأثرت بهم فى رحلتك الأدبية والثقافية؟
- كثيرون من الشرق والغرب، أو الكلاسيكيين والمعاصرين، وعلى سبيل المثال تأثرت بالقرآن الكريم، وتأثرت بالشعر العربى فى التراث، كما تأثرت بالعقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم من المعاصرين، وتأثرت بتولستوى من الشرق، وفاوست، وجولو زورزى، وفوكنلر، وهمنجواى، ودوس باسوس من الغرب.
■ ما المراحل التى تمر بها كتابة القصة حتى تخرج إلى الناس.. هل هى شبيهة بالمراحل التى تمر بها ولادة الطفل؟
- ضحك نجيب محفوظ قائلًا: لقد سألت وأجبت، بالضبط هو كذلك، فالعملية الأدبية كلها معاناة من أولها لآخرها، وهى مثل أغلب كل الأمور فى الدنيا تختلط فيها اللذة بالألم. فالكاتب تتولد لديه أفكار متعددة يتم فرزها فى عقله، وتتحرك وتنمو حتى يؤذن لها بالميلاد، وكل قصة تختلف طبعًا من شهور لسنوات، لطبيعة الموضوع وكبره أو صغره.
■ الطابع الشعبى الذى يغلب على رواياتك.. بماذا تعلله؟
- لأننى شعبى، فليس الأمر فى حاجة إلى تعليل، فلم أستعر شيئًا من الخارج.
■ هل من الأفضل للأديب أن يعيش التجربة التى يكتب عنها أم أنه من الممكن أن يعبر عنها دون أن يعيشها؟
- ممكن يعبر عنها من غير أن يعيشها، لكنها تدخل فى تجربته بالمشاهدة أو بالدراسة، فليس من الضرورى لكى أكتب عن لص، أن أسرق مثلًا.. يعنى يكون هناك شعور بالحدث وتعرفه ولو من بعيد، والأفضل طبعًا من عاش التجربة، لأنك لا تستطيع أن تعرف الحرب إلا من محاربين، وجميع من كتبوا عن الحرب كانوا من الجنود، وقد كان تولستوى مؤلف «الحرب والسلام « محاربًا شارك فى الحرب، ولهذا جاء مؤلفه ذات قيمة عالمية كبيرة.
■ لكن ألا يمكن لمن لم يعش التجربة أن تكون له قدرة على التعبير أبرع ممن عاشها؟
- لا لا، ليست المسألة مسألة تعبير، إنها مسألة تجربة إنسانية لا بد أن تعرف أبعادها.. وكيف يمكنك أن تعرف أبعادها، وأنت مغلق على نفسك بيتك.
■ هل حدث أن كتبت قصة ندمت على كتابتها؟
- كتبت قصصًا كثيرة، ولم تكن صالحة للنشر فى أوائل حياتى الأدبية، وحتى فى أواخر حياتى من سنة أو سنتين كتبت قصة ومزقتها، كنت أسميها «ما وراء العشق»، قرأتها ولم أرتح إليها، وقد نسيت فكرتها.
■ كتابتك للقصة اليوم هل تختلف عن كتابتك لها بالأمس؟
- هى نفس الخطوات ونفس المعاناة، ولا يوجد خلاف لا ظاهرى ولا جوهرى.
■ ما العمل الأدبى الذى تمنيت كتابته ولم تقم به حتى الآن؟
- ليس هناك عمل أريد القيام به، ولكن عندما تأتى فكرة وأكون قادرًا على تنفيذها أنفذها، فليس عندى جدول أعمال.. هذا عمل أعمله، وهذا لا أعمله.
■ هل تمنيت شيئا خلال رحلة حياتك ولم تظفر بتحقيقه؟
- أشياء كثيرة خاصة ليست للنشر.
■ ما مراحل التحول المهمة فى رحلتك الأدبية؟
- مرحلة تحولى من كاتب مقال يتطلع لدراسة الفلسفة، إلى تحولى ككاتب قصة، ومن القصة الرومانتيكية إلى الواقعية، ومن الواقعية لأشكال أخرى طبقًا لمجريات الظروف.
■ إلى أى مدى استطاع أستاذنا نجيب محفوظ أن يؤدى رسالته فى الحياة؟
- لا أستطيع أن أقول ذلك، وإنما دعه لغيرى، وإنما أردت أن أكون أديبًا، فاجتهدت ودرست وتمرنت وألفت وقدمت أحسن ما عندى على قدر ما أستطيع.
■ فما نصيحتك للأدباء الشبان للاستفادة من خبرتك الأدبية؟
- هم فى عصر غير عصرنا، نحن الآن فى عصر التخصص، والمعاهد موجودة بجميع أنواعها، ومن يريد أن يتخصص فى الأدب أو يتخصص فى السيناريو أو يتخصص فى أى نوع من أنواع الكتابة فليتقدم، ما دامت هذه التخصصات موجودة، وليتجه برغبته إلى تخصصه الصحيح، وفى هذه الحالة سيستغنى عن الأسئلة والنصائح وعن كل شىء، سيجد بدل الأستاذ عشرين مؤهلين يعرفونه الطريق، ويتمرن فى ظلهم، يعنى زمن السؤال عن الشروط التى يصبح بها الأديب أديبًا زمن قد انتهى وفات، ولكن كل ما أستطيع أن أقوله للأدباء الشبان أن يؤمنوا بالعمل، ويؤمنوا بالصبر، وأن الطريق طويل، وفى حاجة إلى العمل، وأن يحبوا عملهم أكثر مما يحبون نتائجه.
■ ما ملامح الاختلاف المميزة بين جيلكم وجيلنا نحن الشباب؟
- نحن كنا جيل انتماؤنا الأول وطنى، أما هذا الجيل فانتماؤه الأول أيديولوجى، أو لا انتماء على الإطلاق.. هذه هى الصفة البارزة أو الفارق المميز.
■ كيف نحل مشكلة اللانتماء؟
- ليست مشكلة، وإنما هى طبيعة أشياء نتيجة لظروف كل عصر.
■ ما الفرق بين جيلكم وجيلنا؟
- نحن كنا أقل تجربة وأقل جرأة، وأنتم عندكم تجارب كثيرة بفضل وسائل الإعلام، وعندكم جرأة واقتحام، وتهاجرون إلى بلاد أجنبية وأنتم لا زلتم طلبة، وأشياء من هذا القبيل.
■ هل تشجع على هجرة الشباب؟
- ولماذا لا أرحب وفى السفر تجربة للانطلاق والعمل، رغم أننى لست من هواة السفر، وفى السفر سبع فوائد كما يقولون، وأنا معترف أننى خسران هذه الفوائد السبع.
■ ما المكان الذى يحلو لك أن تتردد عليه؟
- المقاهى.. حيث كان تُعقد فيها ندوات، سواء التى سمعنا عنها أو التى شهدها جيلنا، فقد سمعنا عن ندوات كانت تعقد فى قهاوٍ قبل جيلنا ولم نشهدها، مثل قهوة فى سيدنا الحسين التى كان يعقد فيها مجلس المرحوم المنفلوطى، وكان اسمها قهوة «كتكوت»، وقهوة فى باب الخلق كان يحضرها حافظ إبراهيم وآخرون، ولكن ما أستطيع أن أتكلم فيه عن علم وبينة ندوة «كازينو أوبرا» التى أنشأها جيلنا، أظن حوالى سنة ١٩٤٣، وكان أساس تكوينها لجنة النشر للجامعيين التى أنشأها عبدالحميد جودة السحار، واشترك فى تأسيسها أحمد باكثير، وعادل كامل وأحمد زكى، ثم عرفت أخبار اجتماعاتنا فى المجلات، فأصبح يحضرها طلاب أدب، أو أدباء جيل جديد قبل النشر مثل عبدالرحمن الشرقاوى وشكرى عياد وفتحى غانم وبدرالدين، وكثيرون من الشباب كجلال العشرى ويوسف إدريس ومحمود السعدنى، وشهد هذه الندوات فى كثير من الأحيان د. عبدالقادر القط، وسيد قطب، وزاد مرتادو ندوة كازينو أوبرا مع الأيام وانتظمت، وأصبحت تجرى فيها الأحاديث الأدبية، والكتب تُقرأ وتُنقد، وتجرى المناقشات عن القصص والأشعار الجديدة.. واستمرت هذه الندوات مدة طويلة حتى انكمشت الحركة الأدبية بصفة عامة، وانكمش دور المقاهى كظاهرة من الظاهرات فى حياتنا الأدبية، يجوز لوجود أجهزة الإعلام، خاصة أن الفرصة موجودة فى الإذاعة والتليفزيون، وفى نوادى القصة، والجمعيات الأدبية، إنما عمومًا ألاحظ أن حديث الأدب أصبح ثانويًا بالنسبة للأحاديث الأخرى.
■ ما النتائج التى يمكن أن تكون قد أسفرت عنها ظاهرة المقاهى فى تاريخ الحركة الأدبية فى مصر؟
- لقد عرفنا فى المقهى بشائر الأدب الذى سمى جديدًا فيما بعد، وكذلك عرفنا أفكارًا جديدة فى الفكر والسياسة، وكانت تدور معارك موضوعية مستمرة عن ظهور القصة الواقعية والصراع بينها وبين القصص التقليدية والرومانسية، ثم أتت بعد ذلك القصص الجديدة التى ثارت على الواقعية نفسها، مثل القصص التعبيرية والرمزية.
■ لو خُيرت أن تكون وزيرًا مسئولًا فأى وزارة تختار وماذا تنوى أن تفعل؟
- السؤال مستحيل أصلًا، وما دام ذلك مستحيلًا فلا داعى للحديث فيه عما أنوى أن أفعله، لأننى لست وزيرًا ولا أصلح للوزارة.
■ ما الذى تقوله لوزير التربية والتعليم؟
- أقول له قلبى معك فى كل ما تتخذه من خطوات لتجديد التعليم وإصلاحه، وأرجو إن ربنا يعينك على أن تجعل التربية على قدر التعليم، والاهتمام بها لا يقل عن الاهتمام بالتعليم، سواء التربية الدينية أو الاجتماعية أو الثقافية، لأننا إذا أردنا إنسانًا يمثل بناء متكاملًا، فهو يبدأ من الروضة.
■ ما الفرق بين الطالب فى أيامكم وهذه الأيام؟
- الفارق كبير وإن كان فيه اتفاق من حيث التعليم كاستراتيجية بمحاسنه وسيئاته، إنما نحن لظروف التعليم أيامنا وقلة عدد الطلبة، واكتمال المدرسة واحتوائها على كل ما تحتاجه التربية والتعليم، والعناية بالمدرسين، وجدنا تربية وتعليمًا أحسن مما يتاح الآن عشرات المرات، ولا فضل لنا فيما تعلمناه، ولا ذنب عليهم فيما تركوه.
■ كيف تنظرون إلى المرأة المصرية الحديثة؟
- كما أنظر للرجل.
■ ماذا تعنى؟
- أعنى أن المرأة قوة إنسانية عاملة رغم تخصصها الأنثوى، فهو اختلاف فى الطبيعة بين الرجل والمرأة، إنما فى الطبيعة الثقافية والاجتماعية لا يوجد خلاف، فهى تتعلم كما يتعلم الرجل، وتعمل كما يعمل الرجل، ومسئوليتها لا تقل عن مسئولية الرجل.
■ ألا ترى أن انشغال المرأة العاملة قد يعوقها عن أداء رسالتها كأم عليها مسئولية إعداد الأجيال؟
- أنا لى فكرة واحدة، وهى أننى كنت أحب أن البنات العاديين اللاتى لم يتعلمن يتم تهيئتهن وإعدادهن، ليتخصصن للعمل فى البيت، وتصبح لهن معاهد يدرسن فيها أصول التربية والاقتصاد المنزلى، وطب الأطفال والطهى، إلى آخر هذه الأمور، وتصبح ست البيت خريجة معهد، وتؤجر على ذلك باعتبار أن ست البيت وظيفة اجتماعية، وليست أسرية، فتصبح مثل الموظفة، حتى لا تبقى تحت رحمة أحد، ويكون لها معاش، وكل شىء مثل الموظف تمامًا.. ووظيفتها أهم لتخريج أجيال صالحة للمجتمع.
■ هل تطالب بإعطاء الأم أجرًا على تربيتها لأبنائها؟
- نعم لأنها لا تربيهم لنفسها بل للمجتمع، ولأنها لا تربيهم بالفطرة بل تتطببهم وتعلمهم من خلال برنامج دراسى واسع تقوم به، لذلك يجب أن تصبح ست البيت أو الأم وظيفة مثل السكرتارية.
■ وهل الطفل يحصل على حقوقه التى تؤهله ليصبح فى المستقبل شابًا نافعًا؟
- لا.. حالة الأسرة لا تسمح بذلك، خصوصًا الفقيرة والمتأخرة ثقافيًا، ولذلك تبدأ تربية الطفل بالمدرسة، ولهذا يجب أن تكتمل بالمدرسة كل وسائل التربية الحديثة.
■ كيف ترى الفلاح والعامل على خريطة المجتمع؟
- الفلاح المصرى والحرفى المصرى اليوم فى عصرهما الذهبى بحكم التطورات الاقتصادية، فالفلاح هاجر وعاد بالأموال فارتفعت الأسعار فى البلد، وهذا بالنسبة له مفيد، أما العامل فتحسنت أحواله كثيرًا، ولا يوجد منكوب فى البلد غير أصحاب الدخول الثابتة والموظفين فى الحكومة والقطاع العام.
■ وكيف نتج هذا الوضع؟
- نتج عن وجود اللصوص الكبار، ولكن الأمل معقود على حركة التطهير الموجودة الآن، ونرجو ألا تفرق بين لص كبير ولص صغير.
■ ما الأخبار التى مرت بحياتك وتركت فى ذاكرتك أثرًا باقيًا حتى الآن؟
- أشياء كثيرة باقية حتى الآن، ومن الأشياء التى لا تنسى ثورة ٢٣ يوليو و٥ يونيو و٦ أكتوبر وأيام السلام ومصرع السادات.. فكل هذه أخبار لا يمكن أن تزول.
■ أين كنت حين اغتيل السادات؟
- كنا فى إجازة وعيد، وكنت فى الإسكندرية أنا وابنتى فى كافتيريا، وقلت لها: انتظرينى حتى أقطع تذكرة سينما- لنسهر بعض الوقت مثلما يفعل الناس، ولكننى وجدت السينما مغلقة فتعجبت، ووجدت بائع فول سودانى سألته عن سبب إغلاق السينما، فقال لى: هو أنت ما تدراش، دول اعتدوا على السادات وقتلوه. قلت له: السادات مات؟!، قال: مات وذاعوها يا بيه. فعدت ورأسى مقلوبًا، لأنها كانت مفاجأة غريبة جدًا، وكنا يومها قد غادرنا القاهرة إلى الإسكندرية بالطريق الزراعى، ولم نكن ندرى بشىء.
■ ويوم ٢٣ يوليو أين كنت؟
- فى هذا اليوم خرجت فى الصباح مبكرًا، فلم أجد «تورماى»، فسألت بائع الجرائد، فقال لى: الجيش مضرب- وكنا فى العباسية وثكنات الجيش على بعد خمس أو ست محطات، وقلت لبائع الجرائد: هو الجيش بيعمل إضراب؟!
وواصلت سيرى فوجدت دبابة بالقرب من أحد البنوك، وكان بيان الثورة تتكرر إذاعته باستمرار، فحزنت وسألت نفسى: يا خبر ربما كانت حركة مثل الحركة العرابية. وظللت خائفًا من احتمال قيام الإنجليز بهجوم مضاد على الثورة، ولكن الأمور مرت بسلام ونجحت الثورة.
■ كيف تنظرون إلى الماضى والحاضر والمستقبل؟
- الماضى كان غنيًا فى جوانب كثيرة مثل الحرية السياسية، ومثل الإبداع الفنى فى الفنون والفكر والموسيقى والفنون المسرحية والشعرية، أما الحاضر فهو هبوط فى جميع هذه الأشكال.. وفى المستقبل نأمل أن تستعيد كل هذه المجالات مكانتها، خاصة الثقافة التى نريد أن تسترد نشاطها وأنفاسها فى أى شكل وفى أى صورة.
■ كيف ترى العهد الحاضر الآن؟
- العهد يحاول أن يستخلص الإيجابيات من السلبيات من العهدين، ضاغطًا بشدة على الإيجابيات، متجنبًا السلبيات، وهو حتى الآن يسير فى طريق صحيح، وأرجو أن يتمم طريقه ويحقق أهدافه، ويعوضنا عن كل ما فات.
■ هل أستاذنا متفائل أم متشائم؟
- أجابنى نجيب محفوظ بضحكة مدوية قائلًا: هل هناك من يعيش حتى يتجاوز السبعين يكون متشائمًا!
وحينما هممت بسؤالى الأخير قال لى نجيب محفوظ: أظن أننا قد تكلمنا كثيرًا «وكفاية كده»، قلت له: إنه السؤال الأخير وكفى.
■ أرجو أن تتوجه برسالة تختتم فيه أستاذنا حديثك.. فإلى أى قطاع من المجتمع تتوجه بكلمتك الأخيرة؟
- الشباب.. الحقيقة أننى أفكر فيه بعمق وألم، لأنه من غير شك أن هذا الجيل قد واجه من المشكلات ومن الصعاب ما واجهه ويواجهه، لذلك لا يوجد جيل يحتاج لقوة العزيمة وقوة الشخصية مثل هذا الجيل، ومن الممكن لهذه المحنة التى يواجهها شبابنا أن تتمخض عن أعظم جيل من الشباب عرفته مصر فى تاريخها الحديث.