عقد من القطيعة يكفي.. مصر وتركيا: الصلح خير
عشر سنوات كاملة هي مدة القطيعة بين مصر وتركيا على خلفية طرد جماعة الإخوان من السلطة في ثورة 30 يونيو 2013.
في علاقاته الإقليمية، كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يتبنى أجندة سياسية قائمة على توظيف مشروعات الإسلام السياسي للنفاذ من خلالها إلى أقطار الربيع العربي فيما اصطلح عليه أكاديميا بـ"العثمانية الجديدة" أو "الأردوغانية"، غير أن الاحتجاجات الشعبية العربية أجهضت ذلك المشروع مبكرا، سيما بعد وصول المد الثوري من القاهرة إلى دول عربية أخرى كتونس وسوريا واليمن.
احتضان تركيا لعناصر الجماعة المحظورة وتحريضها ضد مصر في المحافل الدولية كان سببا في طرد سفيرها من القاهرة. رد الفعل المصري كان بمثابة صفعة قوية أدركت أنقرة بعدها أنها ارتكبت خطأً جسيما بإهدار مبدأ "تصفير المشاكل" مع دول الجوار الإقليمي الذي أرساه ثعلب السياسة التركي أحمد داوود أوغلو.
بمرور الوقت وسقوط تنظيم الإخوان في معظم الدول العربية، تأكد أردوغان من فشل رهاناته على جماعات الإسلامويين في الهيمنة على الدول العربية، وأدرك أن النموذج الإيراني في اختراق بعض العواصم العربية من خلال الأذرع الشيعية غير قابل للاستنساخ.
بدأت المحاولات التركية على استحياء لاستعادة العلاقات مع مصر كأحد أهم القوى الإقليمية في المنطقة، وأصدرت أنقرة إشارات متعاقبة تفيد برغبتها في التصالح مع شريكها التجاري الأكبر في أفريقيا، غير أن النظام المصري لم يستجب مباشرة، واشترط على تركيا أن تزيل كافة مهددات الأمن القومي قبل أي حديث عن المصالحة.
عدد من المسؤولين الأتراك صدرت عنهم تصريحات تصب في خانة الرغبة في تصحيح العلاقة مع القاهرة إدراكًا لسلبيات القطيعة وأهمية الدور المصري في قضايا الإقليم، كان أبرزهم وزير الخارجية حينها مولود جاويش أوغلو الذي أشار إلى رغبة أنقرة والقاهرة في تحسين العلاقات، مؤكدا أن مصر وتركيا تمثلان قوتين إقليميتين مركزيتين في الشرق الأوسط، بمقوماتهما وإمكانياتهما المادية سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا وجغرافيًا وبشريًا، ومن مصلحتهما المشتركة التعاون لا الصدام.
وفي عام 2016 جاء وفد تركي رفيع المستوى برئاسة حسن علي تشلك نائب وزير الصناعة وضم خمسة من كبار المسئولين الأتراك، في زيارة لمصر استغرقت يومين، كانت هي الأولى منذ تدهور العلاقات عام 2013؛ للمشاركة في فعاليات الدورة الخامسة لمؤتمر وزراء الصناعة والتجارة للدول الأعضاء بمنظمة الدول الإسلامية الثماني النامية. وفي العام نفسه زار وزير الخارجية المصري سامح شكري تركيا لحضور قمة منظمة التعاون الإسلامي.
استمرت إشارات إثبات حسن النية بين الجانبين حتى جاءت الانتكاسة الكبرى بتوقيع تركيا مذكرتي تفاهم مع ليبيا لإعادة ترسيم الحدود البحرية بين الدولتين، وللتعاون الأمني والتدخل العسكري إن لزم الأمر.
في هذه الفترة، كانت التهديدات التركية للأمن القومي المصري تأتي من أربع جهات، جنوبًا عند مداخل البحر الأحمر ومنطقة المحيط الهندي من خلال القاعدة التركية في الصومال، وشرقاً عبر التواجد العسكري في شمالي سوريا والعراق، وشمالا متمثلا في حضورها العسكري في شرق المتوسط، إلى جانب التواجد في ليبيا غربًا، وأخيرا الدعم التركي المفتوح بالتعاون مع قطر لجماعة الإخوان وحركة حماس في قطاع غزة.
من زاوية أخرى، شهدت العلاقات التركية بدول الخليج تقلبات حادة خصوصا مع السعودية والإمارات خلال فترة الأزمة مع قطر، لتتشكل محاور إقليمية جديدة من رحم التفاعلات، أولها مصر مع السعودية والإمارات والبحرين من جهة، وتركيا وقطر وبعض الفاعلين من غير الدول على الجهة الأخرى.
ازدادت العلاقات سوءا بين مصر وتركيا على خلفية النزاع على حقول غاز شرق المتوسط وتأسيس مصر مع قبرص واليونان منتدى لهذا الغرض، ثم تدخل تركيا في الشأن الليبي ونقل المتطرفين الذين كانوا يقاتلون ضد نظام بشار الأسد ما اعتبره الجانب المصري تهديدا خطيرا، وفي تصعيد كبير ينم عن مدى تدهور العلاقات في ذلك الوقت، لوح الرئيس السيسي باستخدام القوة العسكرية لو تخطت تلك العمليات المدعومة من تركيا في الداخل الليبي خط سرت – الجفرة.
بعد كل هذه التقلبات تبدلت الأحوال فجأة مع محاولة إسرائيل إزاحة مصر من طريقها والاتفاق مع قبرص واليونان للهيمنة على صادرات الغاز إلى أوروبا. هنا أدركت كل من القاهرة وأنقرة أن مصالحهما معا أكبر مما سواها، فبدأت الإشارات المتبادلة على الرغبة في إعادة المياه إلى مجاريها تتوالى مرة أخرى، حتى تكللت باللقاء المباشر بين الرئيس عبدالفتاح السيسي ونظيره التركي أردوغان على هامش افتتاح بطولة كأس العالم نوفمبر من العام الماضي في قطر، ليمثل ذلك المشهد نقطة الانطلاق نحو التحضير لترفيع العلاقات في حال نجحت الدولتان في تسوية القضايا الخلافية فيما بينهما.
في إقليم يشهد تفاعلًا كبيرًا بين القوى الفاعلة، فإن إعادة تعميق العلاقات تفتح آفاقا جديدة للتعاون بين القوتين الإقليميتين الأكبر من حيث عدد السكان والقوة العسكرية، في مجالات متنوعة وحيوية، بدءًا من الاقتصاد والطاقة وصولاً إلى مقاربة مشتركة لحل الخلافات في ليبيا، والتي كانت عقبة رئيسية أمام التسوية لفترة طويلة.
ورغم أن قرار ترفيع العلاقات وإعادة تبادل السفراء بين البلدين، لن يحل القضايا الخلافية بين عشية وضحاها، إلا أنه سيمهد الطريق للتوصل إلى تفاهمات مشتركة مهمة بشأن قضايا الإقليم الذي يعاني من تبعات جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية، بما يجسد المعنى الحقيقي لمقولة "الصلح خير".
نجاح عملية تعميق العلاقات من البلدين يتطلب تصنيف المشكلات والبدء بالقضايا الأكثر اتفاقًا، مع إعطاء الأولوية في البداية للقضايا الاقتصادية. التقدم في هذا المسار سيشجع على تسوية القضايا الأكثر جدلية مثل القضية الفلسطينية، وقضايا الأمن القومي. على نحو موضوعي، يجب على كلا البلدين أن يدركا الواقع الجيوسياسي الحالي ويتصرفا وفقًا لذلك.
إذا توصلت تركيا ومصر إلى اتفاق شامل في طاولة المفاوضات لتطبيع من خلال تكييف المسارات المتقاطعة والمتناقضة في العديد من الملفات في إطار التفاعلات الإقليمية والدولية، فإن ذلك يتطلب من تركيا أن تتوقف عن التدخل في شؤون الدول العربية وتقليل التوسع العسكري في المنطقة والاستجابة لمطالب مصر بشأن الملف الليبي. وعلى الجانب الآخر ينبغي على مصر أن تراعي مخاوف تركيا بشأن أمن الطاقة والتقارب مع خصومها التاريخيين قبرص واليونان.