إرهاب المناخ.. ومناخ الإرهاب
"غرق مدن كبيرة.. طقس سيبيري صقيعي يسود أوروبا.. موجات جفاف وفيضانات وكوارث نووية ومجاعات وأعمال عنف تضرب العالم لأسباب بيئية.. تغيرات مناخية حادة يمكن أن تضع الأرض على شفير الفوضى".
جاءت هذه النبوءة المفزعة في تقرير سري لوزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون" عام 2004 للتحذير من خطر الاحترار العالمي. التقرير الصادر قبل نحو 20 عامًا، وبعد مرور حوالي 60 عامًا على نهاية الكارثة الإنسانية الأكبر في تاريخ البشرية المتمثلة في الحرب العالمية الثانية، اختتم توصياته بالتشديد على أن "الخطر الذي يهدد الاستقرار العالمي نتيجة التغير المناخي يفوق كثيرًا خطر الإرهاب".
اهتمام الولايات المتحدة في تلك الفترة كان منصرفًا إلى مكافحة خطر الإرهاب العالمي بعد أحداث 11 سبتمبر، غير أن أجهزة الإنذار المبكر بإدارة الأمن القومي الأمريكي دقت ناقوس خطر جديد يحدق بالكوكب، تفوق أضراره تلك الأخطار التقليدية.
عمدة المخاطر الآنية
تعددت مهددات الأمن العالمي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتمحورت جميعها حول المسببات التقليدية المتعارف عليها كالصراعات المسلحة والإرهاب والجريمة المنظمة العابرة للحدود وغيرها، إلى أن ظهر في السنوات الأخيرة تهديد جديد ضمن ما تحمله التغيرات المناخية في طياتها من مخاطر هي أكبر من كل ما عداها.
تغيرات المناخ فضلًا عن كونها تهديدًا خطيرًا للأمن العالمي، تؤثر كذلك على الاستدامة البيئية وتعرقل النمو الاقتصادي وتزعزع الاستقرار السياسي بالطريقة التي شهدناها مؤخرًا في مناطق متفرقة بالعالم من موجات نزوح وكوارث إنسانية ناتجة عن الظواهر الطبيعية المرتبطة أساسًا بالتقلبات المناخية الحادة كالزلازل والأعاصير والفيضانات والمجاعات الناجمة عن الجفاف وهلاك المحاصيل الزراعية بسبب الاحتباس الحراري وغيره من أسباب، بشكل يوضح كيف أن مستقبل البشرية والكوكب كله، متوقف على طريقة تعامل الإنسان مع ذلك الخطر المستجد المستفحل، الذي تفوق قدراته التدميرية كل أسلحة الدمار الشامل التقليدية مجتمعة.
إرهاب المناخ
يمارس المناخ بتقلباته العنيفة على الكوكب إرهابًا جديدًا من نوع خاص، وبصرف النظر عن وسائل التدمير، فالعاقبة تكاد تكون واحدة.. إشاعة الذعر بين الناس والشعور بعدم الأمان.
زيادة درجات الحرارة، وارتفاع منسوب سطح البحر، والتغيرات في نمط الأمطار، وانحسار الجليد في مناطق قطبية وغيرها من تقلبات مناخية وما ينجم عنها من ظواهر جوية عنيفة، تضاعف مشكلات العالم المتفاقمة أصلًا، فهي تؤدي إلى نقص الموارد المائية وتقلل من إنتاج الغذاء والطاقة، وتعرقل مسار التنمية المستدامة، وتفاقم الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك.
التغير المناخي يضعف كذلك قدرة الدول على التكيف والاستجابة للتحديات الأمنية الأخرى. فعندما تكون الموارد الطبيعية نادرة، والأراضي غير صالحة للزراعة، والمجتمعات مهددة بالفيضانات أو الجفاف، فإن استقرار الدول يكون على المحك، وسلمها الأهلي وتماسك المجتمعات فيها يصبح في أضعف حالاته، وكل ذلك يؤدي في نهاية المطاف إلى زيادة احتمالات نشوب النزاعات على الموارد لمحدوديتها.
استنفار دولي
أعلنت كل من الولايات المتحدة وفرنسا واليابان وكوريا الجنوبية وحلف الناتو عن أن حكوماتها تعتبر تغير المناخ من مهددات الأمن القومي.
تنامي الظاهرة في العقود الأخيرة دفع المجتمع الدولي ومنظماته الحكومية وغير الحكومية إلى الاستنفار، لدرجة أن الأمم المتحدة خصصت مؤتمرًا سنويًا يعرف باسم مؤتمر الأطراف لمواجهة التغيرات المناخية. قمته الأخيرة عقدت بنهاية العام الماضي في مصر، وقمته المقبلة ستعقد بنهاية العام الجاري في الإمارات، بقصد تعزيز التعاون بين دول العالم في وضع استراتيجيات شاملة تستطيع مواجهة هذا التحدي.
هذه المبادرة الأممية معنية بتقليل انبعاث الغازات الدفيئة المتسببة في ظاهرة الاحتباس الحراري، وظيفتها العمل على توحيد الجهود الدولية وتبادل المعرفة والتكنولوجيا في مجال مكافحة تغير المناخ، وهدفها الوصول إلى أفضل السبل للتعامل مع الظاهرة واحتواء أضرارها.
التحرك العالمي وإن كان يعكس مدى شعور المجتمع الدولي بالخطر، إلا أنه لا يزال ينقصه الكثير من الجهود نظرًا لتنوع تأثيرات الظاهرة وتعدد جوانبها.
مناخ الإرهاب
في كلمته أمام مجلس الأمن في ديسمبر 2021، حذر أنطونيو جوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، من أن التغير المناخي يمكن أن يزيد من فرص حدوث أعمال إرهابية، مرجعًا ذلك إلى التأثيرات البيئية الضارة على المجتمعات.
تشير بعض الدراسات إلى وجود رابط بين تغير المناخ والإرهاب، معتبرة أن التقلبات المناخية قد تكون أحد روافد الإرهاب ومغذياته. تقارير صادرة عن الهيئات الحكومية المعنية بتغير المناخ تشير إلى أن الظاهرة أدت إلى زيادة تواتر الظواهر المتطرفة، ومع ذلك، فإنه لا دليل حتى الآن يثبت وجود علاقة مباشرة بين التغير المناخي والإرهاب.
على سبيل المثال، حاولت بعض الدراسات الميدانية تتبع العلاقة بين ارتفاع درجات الحرارة في بعض البلدان مثل نيجيريا وزيادة الهجمات الإرهابية، إلا أنه لم يتم التوصل إلى استنتاجات قاطعة تنطبق على جميع الحالات. بالإضافة إلى ذلك، قد يتعرض بعض البلدان أو المناطق لكوارث مناخية دون أن يترتب عليها ظهور جماعات إرهابية.
اتفق الباحثون على عدم وجود علاقة مباشرة بين تغير المناخ والإرهاب، لكنهم أكدوا في الوقت ذاته، أن الآثار السلبية للتغيرات المناخية تساهم في خلق بيئة مواتية أمام الجماعات الإرهابية من أجل ترسيخ وجودها وتوسيع انتشارها، بسبب حالة عدم الاستقرار التي تخلف الكوارث الطبيعية وتؤدي عادة إلى هلاك الحرث والنسل.
في هذه الأثناء تستغل الجماعات الإرهابية التوترات والصراعات التي تشهدها المجتمعات بسبب التداعيات التي تترتب على تغير المناخ، بالطريقة التي حدثت مع بحيرة تشاد. مساحة البحيرة كانت تبلغ في الستينيات، أكثر من 26 ألف كيلومتر مربع، فقدت أكثر من 90% من مساحتها لتبلغ نحو 1350 كيلومترًا مربعًا بحلول عام 2014، وذلك بسبب تراجع معدل هطول الأمطار الناجم عن التغير المناخي.
جماعات السكان المحليين في الدول التي تطل على البحيرة (الكاميرون وتشاد والنيجر ونيجيريا)، كانت تعتمد بشكل كبير على البحيرة سبيلًا للعيش من خلال أنشطة الصيد البحري، أو أنشطة الرعي والزراعة. جفاف البحيرة وما أعقبه من تدهور في مستوى المعيشة أدى إلى نشوب صراعات عرقية ونزاعات شديدة بين المزارعين والرعاة في هذه المجتمعات التي شهدت ارتفاعًا في معدلات البطالة والفقر، فاستغلت بعض الجماعات الإرهابية، مثل بوكو حرام، هذه الظروف لاستقطاب الشباب العاطلين عن العمل وتوسيع عملياتها في تلك المناطق المضطربة.
الدراسات السوسيولوجية تؤكد أن قرار الفرد بالتمرد أو بالانضمام إلى جماعة إرهابية، يأتي عندما تتجاوز الفائدة التي سيحصل عليها التكاليف التي يتحملها، وفي هذا الصدد وجد استطلاع أجراه البنك الدولي في عام 2011 لدول في أمريكا اللاتينية وإفريقيا والشرق الأوسط أن النقص المستمر في فرص الحصول على الدخل كان الدافع الأكثر شيوعًا للانضمام إلى الحركات الإرهابية وجماعات الجريمة المنظمة.
الأمين العام للأمم المتحدة في كلمته المشار إليها، أكد هذه الفرضية حين قال "عندما يؤدي تأثير التغير المناخي إلى فقدان سبل العيش ويخلف حالة من اليأس بين أفراد المجتمع، تصبح وعود توفير الحماية والدخل وتحقيق العدالة أكثر جاذبية، إذ يسعى هؤلاء الإرهابيون إلى تقديم الوعود لتوفير الحماية والدخل مما يدعم شرعية وجودهم، ويضرب في الوقت ذاته شرعية الدولة، حيث تؤدي التقلبات المناخية إلى إعاقة قدرة المؤسسات الحكومية على تقديم الخدمات العامة، مما يؤجج مشاعر السخط ويفاقم عدم الثقة بالسلطات" بتعبير جوتيريش.
هناك اعتراف متزايد بين مجتمعات البحث والسياسة بأن عدم الاستقرار المناخي يعد عاملًا مساعدًا على زيادة التهديدات الأمنية وفي القلب منها الإرهابية.
ملخص القول إن الجماعات والتنظيمات الإرهابية استفادت من التداعيات التي ترتبت على تغير المناخ، في تحقيق مجموعة من الأهداف، أبرزها النمو والانتشار، وتجنيد الأتباع الجدد، واكتساب شرعية الوجود في مقابل ضرب شرعية الدولة، فالثابت أن الجماعات والتنظيمات الإرهابية تنمو وتتمدد في المناطق الهشة سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، ولا أكثر هشاشة من المناطق المنكوبة بيئيًا.