أشباه الموصلات.. ساحة الحرب الجديدة بين الصين والولايات المتحدة
خلال القرن الماضي، كان السبب الرئيسي في اشتعال الصراعات والحروب بين مختلف دول العالم هو التنافس على النفط والثروات الطبيعية التقليدية، ولأن كل وقت وله آذان كما يقول المثل الشعبي، فإننا نشهد في عصرنا الحالي صراعات من جديد تتركز معظمها حول التكنولوجيا وعوامل الاقتصاد المعرفي، كتلك الحرب الخفية المشتعلة بين أكبر قوتين في العالم حاليا للسيطرة على صناعة أشباه الموصلات والرقائق الإليكترونية، التي باتت تتحكم في مختلف أوجه الحياة اليومية.
وأشباه الموصلات هي رقائق إلكترونية دقيقة تستخدم في الصناعات التكنولوجية المتطورة، مثل أجهزة الحاسب الآلي والسيارات، سواء العادية أو الكهربائية، بالإضافة إلى قطاع الفضاء، ويبقى أخطرها على الإطلاق تلك المستخدمة في الصناعات الدفاعية والعسكرية المتطورة.
وكدلالة على أهمية هذه الصناعة، تجدر الإشارة إلى أن شركة السيارات الأمريكية العملاقة "جنرال موتورز" توقفت عن إنتاج سيارات كهربائية جديدة، كنتيجة مباشرة لتعطل سلاسل التوريد العالمية إبان أزمة كورونا، حيث تعتمد هذه الصناعة بالأساس على توافر أشباه الموصلات الكهربائية.
الولايات المتحدة هي أكبر المستوردين لأشباه الموصلات، في حين تعد الصين أحد أبرز المصدرين لها. وبالتالي، فإن تأثير التوترات التجارية بين البلدين يؤدي إلى نقص في إمدادات أشباه الموصلات وعرقلة عملية الإنتاج في صناعة السيارات الكهربائية بالسوق الأمريكية.
وتعتبر صناعة السيارات الكهربائية مجالًا حيويًا في الابتكار التكنولوجي وتطور الصناعات المستقبلية. ولذلك، فإن توقف إنتاجها يعتبر تحديًا كبيرًا للشركات الأمريكية، التي تعتمد على هذه التكنولوجيا للحفاظ على تنافسيتها في السوق العالمية.
والأزمة لا تقتصر على حدود التنافس التجاري بين القوى الدولية الكبرى، لكنها تمتد إلى حدود الصراع السياسي الذي ينذر بصدام وشيك بدوافع مستترة، فالنزاع القائم بين الصين وتايوان يعود في أحد أسبابه إلى أن الأخيرة تمتلك أكبر وأهم شركة لإنتاج أشباه الموصلات في العالم TSMC، وهو ما يجعل واشنطن تستميت دفاعا عن استقلال تايوان وخروجها من الحظيرة الصينية.
تصنع الشركة التايوانية بمفردها ما يصل إلى 65٪ من إنتاج أشباه الموصلات في العالم، وتمتلك نسبة تصل إلى 90٪ من الرقائق المتقدمة. وبالمقابل، تنتج الصين حوالي 5٪ فقط، في حين تنتج الولايات المتحدة حوالي 10٪. هذه الحقائق تشير بوضوح إلى أن السيطرة على شركة TSMC ستمنح القدرة للسيطرة على الصناعات الرئيسية في العالم بالمستقبل القريب. لذلك، فإن الصين لا يمكنها أن تتخلى عن تأكيد أن تايوان هي جزء لا يتجزأ من أراضيها وفقًا لسياسة "الصين الواحدة". بالمقابل، فإن الولايات المتحدة لا تتوانى عن دعم استقلال تايوان وجذبها إلى المعسكر الغربي، لمنع السيطرة الصينية على أكبر مصانع الرقائق الإلكترونية في العالم.
كانت الولايات المتحدة تسيطر حتى عام 2020 على 48٪ من حصة سوق أشباه الموصلات من حيث الإيرادات، أي ما قيمته 193 مليار دولار. من خلال 8 من أصل 15 شركة تُعد من أكبر شركات أشباه الموصلات في العالم، وتتواجد جميعها في الولايات المتحدة.
ورغم أن الصين كانت لا تزال مستوردا لهذه التكنولوجيا في هذه الفترة، إلا أن تطبيق السياسة الجديدة "صنع في الصين 2025" أسهمت في تعزيز مكانتها في هذه الصناعة. كما أن سياسات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، التي ركزت على فرض قيود على تصدير أشباه الموصلات للصين، دفعت الأخيرة للتحرك بسرعة بغرض تحقيق الاكتفاء الذاتي في صناعة أشباه الموصلات بحلول عام 2030.
حرب التكنولوجيا
بحسب المراقبين، فإن تصاعد هذه التوترات قد يؤدي إلى نشوب حرب تكنولوجية باردة بين الشرق بزعامة الصين، والغرب بزعامة الولايات المتحدة.
فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لا تزال تحتل مركزًا رئيسيًا في مجال بحوث وتطوير أشباه الموصلات على مستوى العالم، إلا أنها تتوسع مع حلفائها في فرض مزيد من القيود على الصين التي تسعى لتعزيز مكانتها في هذه الصناعة بتوجيه مليارات الدولارات للاستثمار في البحث والتطوير، من خلال عملاق التكنولوجيا SMIC لامتلاك الأدوات اللازمة لتحقيق الاكتفاء الذاتي من أشباه الموصلات محليا.
في الآونة الأخيرة مثلا، وقع الرئيس الأمريكي جو بايدن على قانون جديد يخصص 54 مليار دولار من الإعانات والتخفيضات الضريبية لشركات أشباه الموصلات بهدف تعزيز قدرات المنشآت في الولايات المتحدة. وفي الوقت ذاته يفرض القانون قيودًا على هذه الشركات بمنعها من القيام بأعمال تجارية في الصين، الأمر الذي اعتبرته بكين انتهاكا لقواعد التجارة الدولية. فضلا عن سعى واشنطن لتشكيل تحالف جديد يضم الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان للتعاون في تصميم وإنتاج أشباه الموصلات في المستقبل، لتلبية معظم المتطلبات العالمية من أشباه الموصلات، وتحجيم قدرة الصين على الدخول إلى مضمار التنافس على هذه الصناعة الاستراتيجية.
من أبرز علامات التوتر بين الولايات المتحدة والصين، أن واشنطن تتهم الشركات الصينية بسرقة الملكية الفكرية لشركات أمريكية وغربية، ما دفع الإدارات الأمريكية المتعاقبة لفرض قيود على نقل المعرفة التقنية للمنتجات التكنولوجية المتقدمة إلى الصين. الشيء الذي أثار القلق في واشنطن هو السيطرة الصينية السريعة على سوق تكنولوجيا الجيل الخامس، حيث تمتلك شركة هواوي، أغلب براءات اختراع 5G.
الجهود الأمريكية لعرقلة الصين، دفعت الرئيس الصيني شي جينبينج، للتصريح علنا في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني أكتوبر الماضي بالقول "سنركز على الاحتياجات الاستراتيجية الوطنية، وسنجمع القوة لإجراء البحوث العلمية والتكنولوجية المحلية والرائدة، وسننتصر بحزم في معركة التقنيات الأساسية الرئيسية"، في رسالة واضحة للإدارة الأمريكية مفادها "نحن عازمون على امتلاك المعرفة ولن يعرقلنا أحد".
الرد الصيني
لم تكتفِ الصين بتصريحات رئيسها على الضربات الأمريكية، حيث تقدمت بشكوى ضد الولايات المتحدة إلى منظمة التجارة العالمية بسبب ضوابط تصدير أشباه الموصلات والتكنولوجيا ذات الصلة. وتعتبر هذه الشكوى الأولى التي تقدمها بكين ضد الولايات المتحدة في إطار منظمة التجارة العالمية منذ تولي الرئيس جو بايدن منصبه في بداية عام 2021. وأكدت الصين في شكواها أن الولايات المتحدة تسيء استخدام ضوابط التصدير للحفاظ على سيطرتها في قطاعات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والتصنيع. كما أشارت إلى أن الإجراءات الأمريكية تشكل تهديدًا لاستقرار سلاسل التوريد العالمية.
بدورها، ردت الولايات المتحدة على هذه الاتهامات مؤكدة أن منظمة التجارة العالمية "ليست الجهة المناسبة" للتعامل مع قضايا الأمن القومي. وقالت ثيا كيندلر، مساعدة وزير التجارة الأمريكي لشؤون إدارة الصادرات: "تتطلب مصالح الأمن القومي للولايات المتحدة التصرف بحزم لمنع الوصول إلى التقنيات المتقدمة".
وأمهلت منظمة التجارة العالمية الولايات المتحدة فترة 60 يومًا لحل هذه المسألة، وإلا سيكون لدى الصين الحق في طلب تشكيل لجنة للنظر في الشكوى التي تقدمت بها، غير أن واشنطن أعلنت أنها "ترفض بشدة" هذا الحكم ولا تنوي إلغاء تلك الإجراءات!
دور الجغرافيا
لا تقتصر المواجهة الصينية الأمريكية الأمريكية في ساحة الرقائق الإلكترونية على حقوق الملكية وحسب، بل تأخذ بُعدًا جيوسياسيًا بسبب أماكن تركز المعادن اللازمة للصناعة. حيث تُمثِّل مواقع انتشارها كنزًا ثمينًا للدول الطامحة للسيطرة على التكنولوجيا العالمية.
ويدخل في صناعة أشباه الموصلات بسبب خصائصها الفريدة عدد من المعادن نادرة الوجود، التي تتركز في مناطق متفرقة بالعالم.
وفقًا للمركز الوطني لمعلومات المعادن في أمريكا، تتواجد هذه المعادن في عدة مواد أخرى مثل الباستناسيت والمونازيت واللوباريت، بالإضافة إلى طين الامتزاز الأيوني. تستخلص من هذه المواد 17 عنصرًا نادرًا جدًا مثل السكانديوم والإيتريوم واللانثانيدات. ويعتبر الثوليوم واللوتيتيوم من أندر العناصر، حيث يوجد فقط حوالي 0.5 جزء في المليون من العناصر النادرة، ما يعني أن الجغرافيا السياسية للتكنولوجيا قد تهدد مستقبل الصناعة إذا نشبت الصراعات بين القوى الكبرى على أماكن استخراج تلك المعادن.
بداية أزمة "الرقائق الإلكترونية" كمحور للصراع الحالي بين القوى الكبرى، تعود إلى جائحة كورونا خلال العامين 2020 و2021، حيث تفاقم نقص الرقائق عالميًا بسبب القيود الناجمة عن العمل عن بُعد والتنقل المحدود، مما أدى إلى توقف منشآت تصنيع الرقائق في اليابان وكوريا الجنوبية والصين والولايات المتحدة بسبب إغلاقها، ثم جاءت الحرب الروسية الأوكرانية لتحدث اضطرابات إضافية حيث أن كلا البلدين هما الموردان الرئيسيان لغاز النيون والبلاديوم المستخدمين في الإنتاج.
بعد أزمتي كورونا والحرب الروسية الأوكرانية، جاءت أزمة تايوان لتؤكد دور الجغرافيا في الصراع، حيث دفعت التطورات الأخيرة في شبه الجزيرة المتنازع عليها إلى تبني سياسات لتوطين صناعة الرقائق في الدول الكبرى، ما يعكس السباق العميق بين الولايات المتحدة والصين لبناء سلاسل توريد محلية لأشباه الموصلات، ويشير إلى تحول عميق في الصناعة بعيدًا عن مفهوم "العولمة" الذي سمح لصناعة الرقائق الإلكترونية بالنمو دون الاعتبار للتوترات السياسية والصراعات المستمرة.