قراءة في "حجر السعادة".. الكاميرا تروي تفاصيل 6 عقود من تاريخ العراق
في عالم يُسحق فيه المهمشون وتضيع أصواتهم دون أن تجد أذنًا تصغي إليها أو تُعيرها بعضًا من الاهتمام، تصير فكرة السعادة أمنية طوباوية قد لا تراود هؤلاء المسحوقين الطامعين فقط في بعض من الاستراحة من رحلة ألم طويلة وممتدة.
يسترجع كمال توما، بطل رواية "حجر السعادة" للروائي العراقي أزهر جرجيس، فصولًا قاسية من طفولته عانى خلالها صنوفًا من عبثية الأقدار ظلت تتقاذفه من ألم إلى آخر ومن قسوة إلى أخرى، حتى أن أقل الأمنيات كانت عصيّة على التحقُق.
صورة بانورامية
اعتمادًا على تقنية الاسترجاع، يدور السرد في الرواية على لسان بطلها منذ أن كان طفلًا إلى أن صار في الستينيات من عمره ليقدم في الآن ذاته صورّة بانورامية للتاريخ العراقي على مدار ما يقرب من ستة عقود.
القاسم الأكبر من العمل يركز على الطفل المُهمّش والمقصي والمنبوذ من الجميع، فالوجه الأكثر قسوة للحياة يعاينه الطفل باكرًا مع الأسرة؛ موضع الدفء المفتقد ومرسى النبذ الأول، لتتشعب تلك القسوة يومًا بعد الآخر حتى يجد "توما" ذاته قطعة بالية ملقاة على الطرقات يدهسها الجميع بلا رحمة.
وتمثّل الرهان الأهم بالرواية في البُعد الإنساني الذي يُعزَز ببراءة تحملها رؤية طفل للعالم وأمنياته به، هنا تطوي الرواية صفحات عذبة لتُصوّر فقط كيف أحال اشتهاء الطفل لقطعة زلابيا حياته إلى جحيم، وكيف صارت رغبة عابرة بالدفاع عن الذات ضد المتنمرين سببًا في تشردُه الأبدي.
في الجزء الثاني من الرواية؛ الذي شهد شباب "توما" وكهولته وحياته في فترة مضطربة من تاريخ العراق، ستصير الكاميرا بطلًا مرافقًا له من خلال عمله مصورًا وحافظًا ليوميات مدينة "بغداد" وتحولاتها.
ومع ذلك، فإن دور الكاميرا في الرواية يتجاوز وظيفة السارد لتصبح لقطات الكاميرا المختلفة وزوايا التصوير المتعددة جانبًا من آلية عمل الرواية.
سرد الكاميرا
يقدم الكاتب في هذه الرواية لقطات قريبة جدًا من الداخل الإنساني للطفل المهمّش وآلامه الداخلية التي قاساها بسبب نبذ أفراد أسرته له؛ الأب وزوجته ما عدا الأخت التي تعاني هي الأخرى تهميشًا مماثلًا، ثم في لقطات قريبة يرصد وجوه آخرى من التهميش داخل المجتمع وبين الأقران.
يخرج الكاتب من لقطاته القريبة نحو لقطات واسعة تبين موقع هذا الفرد المقصي في إطار سُلطة سياسية وأخرى دينية غاشمة؛ ظاهرهما الرحمة وباطنهما العذاب، فتسرد لقطاته آنذاك تلك الوجوه الفظّة المتوارية لمثل هذه السُلطات.
من هنا حين تلقي الأرض الرحبة بتوما في رحابها التي تضيق به طمعًا في رحمة متوهمة عند رجل دين، فإنه يفجع ما إن يرى صورته المتوارية، فيقول ساخرًا: "عندما رأيت مولانا للوهلة الأولى ظننت بأن الأرض ما تزال تحمل على متنها بذار الرحمة وأن وصفي لها بالغابة ما هو إلا ضرب من اليأس السابق لأوانه، لم أكن أعلم آنذاك بأن القسوة كالجمر، قد تنام بعين واحدة تحت رماد مغشوش".
من الهامش إلى المتن
تنطلق الرواية من الهامش إلى المتن، ومما هو نفسي إلى ما هو اجتماعي وسياسي وثقافي، ترصد اللقطات الواسعة في العمل كيف قاد هذا المتن الفاسد ممثلًا في الفساد السياسي والديني والثقافي إلى صياغة واقع المهمشين بصفة عامة، والمواطن العراقي على وجه الخصوص.
وبينما تواصل الرواية عرض لقطاتها المختلفة بحرفيّة، تحتفظ بدرجة كبيرة من التكثيف والاختزال بما هو أقرب إلى لغة التصوير والتشكيل الفني، إذ تفصح الصورة عن جمالياتها بل وجماليات القبح بها دون أن تقع في مأزق الخطابية، فترصد التناقضات بحس ساخر وهازئ يكشف العورات ويُعريها وفي الآن ذاته تمارس حفرًا موجعًا في عمق الجرح.
تصير طفولة الطفل العراقي البائسة رديفًا لواقع أعم وأشمل شهدته عقود الماضي في العراق حين كان المواطن مضطرًا إلى أن يبقى على الهامش لأنه يحيا في صراعات كل لحظة ليبقى على قيد الحياة.
وحينما يقول كمال: "لا أملك استعدادًا للتضحية دفاعًا عن فكرة ما، ولست من صف المتشبثين بحبال أفكارهم حين تكون الحياة ثمن الفكرة. أعرف واحدًا تشبث بفكرته فغدا طعاما للكلاب، وآخر أقسم بشاربه أنه لن يبدل أفكاره، فنتف شاربه وقطع لسانه ثم دفن حيا وشيد فوق قبره تل من القمامة.. نحن في بغداد يا جماعة"، فإنه كان يُعبّر ليس فقط عن ذاته وإنما عن أجيال كاملة عاشت القهر والاستبداد بشتى وجوههما.
وهم حجر السعادة
في خضم كل تلك الأوجاع التي تحاك عبر النص بمهارة، لا بد أن تكون البهجة أو على الأقل الراحة خادعة أو متوهَمة؛ فالطفل المُهمش يتوهم السعادة ولا يصل إليها حينما يصير "حجر السعادة" الذي يلوكه في فمه هو موضع راحته ومبعث طمأنينته، لكنه لا يدرك إلا متأخرًا أن ذلك الحجر لم يكن سوى هروب من واقعه وأنه لم ولن يكون خلاصًا، فيقرر أخيرًا أن يتخلص منه ثائرًا على سنوات من حياته عاش مع الوهم وبه، وليمارس السخرية من ذاته لقناعاتها الزائفة السالفة.
تراهن الرواية على الفن والحب في عالم تمزقه الشروخ والانقسامات الطائفية والاجتماعية والسياسية، وتظل الكاميرا رفيقة البطل التي تعينه على رؤية العالم والجمال الكامن به رغم كل المآسي والمظالم، ووسيلة يسجل بها حياة المدينة وذكريات أهلها.
وعلى الرغم مما تحفل به الرواية من أجواء قاتمة أقرب إلى اليأس والديستوبية بدرجة ما، فإن الكاتب يختتم عمله بالرهان على قوة الحب في التغلب على الأحقاد، وبعد سنوات قاسى فيها الويلات من قهر وظلم وتشرد وعانت فيها بلاده من الميليشيات والفساد، يأتي الحب؛ ممثلا في علاقته بحبيبته نادية، لينقذه من ظلام الرغبة في الانتقام ويرسم أفقًا مفتوحة على التسامح.