«الدستور» تنفرد بنشر فصل من رواية عبدالله السلايمة «أن تعرف أنوشكا»
تنفرد الـ“الدستور” بنشر فصل من رواية الكاتب عبد الله السلايمة «أن تعرف أنوشكا»، وذلك قبل نشرها. وهي الرواية التاسعة لـ“السلايمة”، تتناول حياة شخص تمت إحالته للتقاعد، وكون لديه مفهوم مختلف عن الآخرين بشأن حياة التقاعد، إذ يراها بداية حياة جديدة، يتحرر فيها الشخص من عبودية الوظيفة، وعليه أن يعيشها بحرية، غير مكترث برأي الآخرين.
ــ فصل من رواية "أن تعرف أنوشكا"
مدينة "العريش" التي كانت قبل عدة شهور خائفة وصامتة، باتت الآن صاخبة لا تنام. تزدحم شوارعها بالمارة، و تكتظ مقاهيها بالزبائن لمشاهدة مباريات كأس العالم.
يُفضّل "سمير" مشاهدة مباريات كرة القدم في المقهى، على عكس "مسعد" الذي تقتصر مشاهدته على مباريات كأس العالم فقط، ويفضّل مشاهدتها في المنزل.
وسرّ "سمير" موافقة "مسعد"، بعد إلحاح، على أن يلتقيا الساعة الثامنة والنصف مساء في أحد المقاهي لمشاهدة المباراة الختامية بين" أسود الأطلسي" و "الديوك".
أطلت "مريام فارس" عبر شاشة العرض بالمقهى تغنج بأغنية "توكو تاكا". لا يهم "مسعد" انتقادات البعض بأنها تحاول تقليد المطربة الكولومبية "شاكيرا"، وأن أغنيتها لا تعكس الهوية العربية، ما كان يهمه أن يمتّع ناظريه بصدرها نصف العاري، وجسد المغنية الإنجليزية "نيكي ميناج" الممشوق، الذي فتنه ودفع به للتحسر على شبابه الضائع.
تنهد، فالتفت إليه "سمير"، وكما لو كان يقرأ أفكاره ذكّره ضاحكًا بأن للسِّنِّ حُكمه، فسكب الجاز على نار حسرة "مسعد ".
عقرب الساعة يشير إلى التاسعة مساء، عيون رواد المقهى تحدّق في شاشة العرض، يعشق "سمير" فريق "الديوك" ويشجعه بحماس يزيد من غضب "مسعد"، الذي كان يتصاعد داخله تدريجيًّا كلما اقترب موعد انتهاء المباراة، دون أن يتمكن "أسود الأطلس" من تحقيق التعادل على الأقل.
وفجأة توقف مد حلمه، والأدق حلمنا مع إطلاق حَكَم المباراة صافرته معلنًا انتهاء المباراة واختطاف "الديوك" للفوز من " أسود الأطلس". تملّك "مسعد" الغضب ليس بسبب خسارة "الأسود"، فقد فعلوا ما عليهم، وحققوا إنجازًا تاريخيًّا غير مسبوق، بل بسبب انحياز الحَكَم الواضح ضدهم، وسرقته فرحتنا الكبرى علنًا..
حاول ألا يُبدي اهتمامًا بفرحة "سمير"، وعبّر عن غضبه بمط شفتيه، ثم القول: للحُكّام في الكرة شؤون.
علّق "سمير": كانوا الديوك أحق بالفوز
فقال "مسعد" في حدة: ماذا دهاك يا رجل، هل تجمدت دماء العروبة في عروقك؟ لا أعرف كيف تفكّر، كيف أمكنك الوقوف في الجانب الآخر بدم بارد ضد فريق "الأسود"!
رد "سمير" مستهجنًا: لقد ولى زمن العروبة التي تتغنى بها، وباتت أشبه بأرملة فقدت رجُلها، فتناحر أبناؤها فيما بينهم وتفرقوا.
أنت فقط يا صديقي، وقلة أمثالك، ما زلتم متعبين بها، ويؤرقكم ضياعها، ويدهشني أنكم لا زلتم تنتظرون معجزة أن يظهر رجلٌ من العدم ويعيد الأبناء إلى رشدهم..
لقد ولى زمن المعجزات فأفق من وهمك الكبير، وتعايش مع حقيقة أننا نعيش زمن الرويبضة..
نام "مسعد" ليلتها حزينًا، وعندما فتح الحاسوب صباح اليوم التالي انبثقت من شاشته رسالة "ماسنجر"، حيّته "أنوشكا" فيها "هاي"
فرد تحيتها: "هاي"
وبدأ الحوار بينهما: ماذا تفعل الآن؟"
"مسعد" فكّر للحظة ماذا يقول، ثم هداه تفكيره للقول: أتساءل ما إذا كان "أنوشكا" اسمك الحقيقي أم المستعار؟
"أنوشكا": يمكنك اعتباره حقيقيًّا ومستعارًا في آن! فقد كان اسمي " أنوشكا" و استبدلته بـ "نشوى" تلك هي الحقيقة، ولا مانع لدي أن أخبرك بها، إذا ما أردت.
أبدى استعداده لسماعها، فكتبت تقول: أخبرني المرحوم أبي ذات مرة بأن أصل اسم "أنوشكا" أرمني، ويعني الشيء ذو الطعم الحلو ومذاق السكر، وقد أخبرته بذلك "أنوشكا" حبيبته الأرمنية السابقة بنفسها. أما اسم "نشوى" فهو كما تعلم اسم عربي أصيل. والأهم من ذلك هو اسم علم مؤنث، فاحذر منه (هههه)
رد: الحذر لا يمنع القَدَر كما يُقال
فكتبت: نعم، إنه القَدّر الذي جعل أبي يحب فتاة أرمينية، ويرفض أهلها تزويجها له، وإحياء لذكراها يطلق عليَّ اسمها. وليته لم يفعل.
تساءل: لماذا؟
أنوشكا: لأن هذا الاسم عرضني للكثير من المواقف المحرجة، فعندما يسألني أحدهم عن اسمي وأقول "أنوشكا" يعتقد أنني مسيحية. وعندما دخلت المدرسة، تعرضت للكثير من السخرية والتنمر ليس من زملائي وحسب، بل من بعض المعلمين، الأمر الذي جعلني أمقت اسمي وأفكّر في تغييره، وضاقت الدنيا بفرحتي عندما استشرت صديقًا محاميًا وأبلغني بأن قانون الأحوال الشخصية يمنحني الحق في تغيير اسمي، دون إبداء السبب، وأبدى استعداده لمساعدتي في إنهاء المستندات والإجراءات اللازمة.
نبهني إلى أن الأمر ليس سهلاً كما أتصوّر، وأن البيروقراطية تطيل من أمد هذه الإجراءات للحد الذي يدفع بالبعض إلى التراجع والرضا مجبرًا بالواقع.
فقلت بأن لا مشكلة، فمهما واجهت من صعاب ستكون أهون على نفسي من المعاناة التي أعيشها بسبب هذا الاسم الذي نغّص عليَّ حياتي.
واستغرقت رحلتي للحصول على اسمي الجديد "آلاء" قرابة عام . ثم بدأت رحلة أخرى لتغيير اسمي القديم بالجديد لدى جهة عملي، وفي المصالح الحكومية الأخرى، وكوني متزوجة احتجت لرفع دعوى قضائية أمام محكمة الأسرة، لتغيير اسمي في قسيمة الزواج، وبعد حصولي على الحكم، بدأت رحلة تغيير اسمي في كل الأوراق الرسمية الصادرة لابنتي "سامية" التي ستحوز هذا العام على شهادة الثانوية العامة.
تساءل: أين زوجك من ذلك؟!
فأجابت على نحو غير متوقع: لقد توفي.. وحسنًا فعل!
انقطع التيار الكهربائي فجأة، فأخذ يقلب قولها" لقد توفي وحسنًا فعل" في رأسه. تساءل: ترى ما السبب خلف قولها؟ ووضع عدة افتراضات، أولها: ربما أجبرها أهلها على الزواج منه بينما كانت تحب شخصًا آخر. ثانيها: أن يكون زوجها سيئ الطباع، وكان يسيء معاملتها. ثالثها: ربما تكون أنثى جميلة ومغرورة، وأصابها جمالها وغرورها "بلعنة نرسيس"، وكلما نظرت إلى المرآة رأت إنه لا يستحق أنوثتها، وأماته تعاليها عليه وصدها له كمدًا.. رابعها: ربما تعاني من الفراغ والوحدة، وتبحث عن شخص يعاني بدوره منهما.
عاد التيار الكهربائي، وبينما كان يحرضه فضوله لسؤالها عن سبب قولها، وإذا بها تتساءل عبر "ماسنجر": أين ذهبت؟
رد: معذرة لقد انقطع التيار الكهربائي.
فكتبت: لا بأس فأنا أحب الظلام، أعشقه. أحب الليل وأكره النهار.
قال: إذا كان ما تقولينه صحيحًا، فهذا يعني إنك تعانين حالة نفسية سيئة تسمى بـ "متلازمة الظلام".
فعلقت: ما أعرفه أنني مصابة بـ "متلازمة الكلب" (هههه)، وأنا واثقة من أنك لم تسمع بها من قبل لأنها من ابتكاري (هههه).
تساءل عما تكون "متلازمة الكلب تلك، فكتبت: حين كنت في الصف الأول الابتدائي، وبينما كنت عائدة من المدرسة وجدت جروًا مختبئًا خلف شجرة زيتون بالقرب من الطريق الذي أسلكه مع زميلتي، بدا تائهًا، أشفقت عليه وهو ينبح بصوت حزين مناديًا على أمه، كان لونه أبيض، احتضنته وتوجهت به إلى المنزل سعيدة.
قلت لأمي سأربيه، فقالت بقسوة جرحت قلبي: لا، إنا أكره الكلاب، فهي نجسة، ومن يلمسها يظل نجسًا لمدة أربعين يومًا.
قلت: لكنه صغير.
فقالت: كل صغير يكبر ويتغيّر.
لم أعر قولها اهتمامًا واحتفظت به.
كان جروي الأبيض يكبر، وكلما كبر كان يغزوه اللون الرمادي، تملكتني الحيرة على اختفاء لونه الأبيض، انتابني الشك في أن أمي انتهزت فرصة غيابي لأمر لا أتذكره الآن وصبغت الكلب باللون الرمادي لأكرهه وأتخلص منه. وعندما تأكدتُ أنها لم تفعل، وقالت: ألم أقل لك من قبل بأنه سيكبر ويتغيّر. بدأت أشعر نحوه بالكراهية، التي دفعت بي للتخلص منه.
من يومها وأنا أعاني من متلازمة الكلب، وإلى يومنا هذا كلما تعرفت إلى شخص، أخاف من أن يكون مصبوغًا، ولابد بمرور الوقت سيظهر لونه الحقيقي كما توقعت..
وقد أكون مُصابة بمتلازمة الظلام أيضًا كما قلت للتو، وأعتقد أنها أهون من متلازمة الكلب كما أحسب، وأحسب أن لي عذري في عشقي لليل وكرهي للنهار.
فأنا يا صديقي أكره النهار، لأن عليَّ أن أهيئ نفسي مع مطلع شمس كل يوم لتجرّع المزيد من مرارة واقعي البائس، أن أتحامل على نفسي وابتسم في وجوه مللت رؤيتها.
وأحب الليل، فهو ونيسي في وحدتي، يستمع لشكواي من سوء حالي وحظي، هو من يستوعب أحزاني ويمسح دموعي، يواسيني ويخفف عني، ويحفظ سري برغبتي المحمومة في الهروب بعيدًا من عالمي الصحراوي الخشن الذي أعيشه، ويحاصرني بمحاذيره التي تخنقني، تميتني ببطء.
الليل هو رفيقي المخلص الذي لا يمل مشاركتي البحث عن سبيل آمن أسلكه ويوصلني إلى عالمي الذي أريد، العالم الذي يمكنني العيش فيه بلا خوف من عيون تراقبني وتعد عليَّ أنفاسي ..
ولكون الليل رفيقي الوحيد وأثق به، لم أعترض عندما دفع بي للتعليق على "منشورك"، وزادت ثقتي به عندما أوحي لي بأني سأرتاح لك، وارتحت لك بالفعل، وهذا يعني أنني قد بدأت أتعافى من "متلازمة الكلب".
مازحها: ألم يخبرك صديقك الليل بأننا تسامرنا ذات ليلة، وأوصاني بك خيرًا.
ردت: يبدو أنك من الآن فصاعدًا ستحب الليل مثلي، ألا تعلم أنه رفيق الطيبين. وقلبي يقول لي إنك منهم.
قال: قلب المؤمن دليله كما يُقال.
فقالت: يؤسفني القول بأنني لست مؤمنة على الدوام، فأحيانًا أفقد إيماني بالله، أشعر بأنه قد تخلى عني، وتركني أتدبر أمري بمفردي في مواجهة الدنيا التي لا ترحم.
كتب لها رسالة، قال فيها إنه قد استوقفه قولها "حسنًا فعل زوجها بموته"، وقد وضع أربع افتراضات لذلك. ولمّا أخبرها بها، ردت: ليس افتراضك الأخير وحسب، بل جميعها.