«رسالة الإمام».. تأسيس الشافعى للأيديولوجيا الوسطية كما فهمها نصر حامد أبوزيد
كان كتاب "الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية" للمفكر الراحل نصر حامد أبوزيد، من أكثر الكتب التي أثارت اللغط وأججت الجدل الذي وصل إلى إثارة السؤال حول عقيدة المؤلف واتهامه بالردة، وهو ما يمكن من خلاله استنباط ما وصل إليه العقل العربي من تعامل مع السلف تجاوز حد التقدير نحو التقديس.
وبينما يُعرض حاليًا مسلسل "رسالة الإمام"، الذي يقوم ببطولته الفنان خالد النبوي ويخرجه المخرج السوري الليث حجو، نجد حالة اللغط من قبل المتشددين، حول الصورة التي قُدِّم بها ثالث أئمة الفقه الإسلامي، لا تتوقف بل إنها تطال صانعي العمل الدرامي بالسب والقذف.
وإن كان من أوجه اتفاق بين المنحى الذي أراده العمل الدرامي وبين ذلك العمل الفكري لواحد من أبرز المفكرين الذين شهدهم العالم العربي ستكون على الأرجح محاولات نزع هالة القداسة التي طالت الأشخاص وأفكارهم واجتهاداتهم؛ فبينما يتيح العمل الدرامي ذلك بالتركيز على الجانب الإنساني من حياة الإمام الشافعي وسط المناخ السياسي الهائج والصراعات الدائرة التي أسهمت في تحديد وجهته الفقهية، فإن نصر حامد في كتابه يسعى لإثبات أن الإمام الشافعي صاغ مفهوم الوسطية صياغة أيديولوجية وفق متطلبات عصره.
الأصول النظرية لفقه الشافعي
يبين أبوزيد أن كتابه يحاول دراسة نظرية المعرفة في فكر الشافعي من خلال علم الفقه؛ أي الأصول النظرية التي أقام عليها الشافعي وسائله الاستدلالية وإجراءاته المنهجية التي قامت على مجموعة من المسلمات حين يعيها الدارس جيدًا يتبين أن تحليلات الشافعي كانت في أساسها مناهضة لاتجاهات أخرى في الثقافة آنذاك.
يدرس أبوزيد الآليات التي قام عليها تأصيل الشافعي لمنهجه بالنظر إلى طبيعة السياق التاريخي والزماني الذي عاش فيه الإمام الشافعي، منطلقًا من مسلمة مفادها أن أي مجال من مجالات المعرفة ليس منفصلًا عن باقي المجالات الأخرى وليس مفارقًا لطبيعة المشكلات الاجتماعية التي تشغل الكائن الاجتماعي، وبالتالي ففكر الإمام الشافعي ليس معلقًا في فراغ ولا يمكن التعامل مع ما يصوغه بوصفه حقائق طبيعية لا تقبل النقاش أو الرد.
ويبين أن دراسة عصر الشافعي تكشف عن أن كل الخلافات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية بين الجماعات المختلفة في تاريخ الدولة الإسلامية كان يُعبر عنها من خلال اللغة الدينية، فلم يكن ممكنًا ممارسة أي صراع إلا على حلبة الخلاف حول قضايا التفسير والتأويل، أي النزاع على ملكية النصوص والحرص على استنطاقها بما يؤيد التوجهات والمصالح التي تعبر عنها الجماعات الفكرية.
بناء على تلك المسلمات، ينطلق أبوزيد ليؤكد أن أطروحات الشافعي لا تُفهم بمعزل عن الصراع الفكري الذي كان محتدمًا بين أهل الرأي وأهل الحديث في مجال الفقه والشريعة، والصراع الفكري على مستوى العقيدة بين المعتزلة وخصومهم، وكذلك الصراع بين العرب والفرس الذي كانت له أبعاده الثقافية الواضحة، والصراع الاجتماعي الاقتصادي السياسي الذي كان يتخذ شكل الصراع الفكري الديني حول تأويل النصوص الدينية.
وبالنظر إلى عصر الإمام الشافعي وهو عصر التدوين، أي مرحلة انتقال الأمم والشعوب من مرحلة الشفاهية إلى مرحلة التدوين، يوضح المفكر الراحل أن ذلك الوقت كان بمثابة عصر تأسيس الأصول في تاريخ الأمة، ومن ثم تأسس خطاب الشافعي في ظل صراع بين الاتجاهات الفكرية المختلفة حول تأصيل الأصول في كل المجالات المعرفية، فهو عصر التساؤلات الكبرى والاختلافات العميقة حول قضايا العقل والنقل والرأي والحديث.
محاولة التوسط عند الشافعي
حين ننظر إلى ظروف ذلك العهد وما شهده من صراع على تدوين الذاكرة بين أهل الرأي وأهل الحديث، يتبين، حسبما رأى أبوزيد، أن دور الشافعي في محاولته التوسط بين الاتجاهين في حقيقته انحياز أيديولوجي لمذهب أهل الحديث، إذ كان الصراع يدور في مجمله حول تحديد المرجعية النهائية للفعل الثفافي الفكري الاجتماعي وهل هي العقل أم النقل، فلم يكن الصراع يدور حول مرجعيتين تصورهما العقل الإسلامي متناقضين بل كان حول تحديد أولية إحداهما.
يقول أبوزيد: الشافعي الذي صاغ الأدلة للتدليل على أن السنة مصدر ثان من مصادر التشريع فعل ذلك ردًا على فقهاء آخرين كان لهم موقف من السنة مخالف لموقف الشافعي، وسيادة اجتهاد الشافعي في حيز علم أصول الفقه ظاهرة تاريخية يمكن تتبع أسبابها في التاريخ الاجتماعي للمسلمين.
ومن ثم، فإن أبا زيد يعتبر أن مواقف الشافعي الاجتهادية ارتكز معظمها على الحفاظ على المستقر الثابت، وسعت إلى تكريس الماضي بإضفاء طابع ديني أزلي عليه، وهو ما يعني أن ثمة حاجة إلى مناقشة اجتهاداته ليس للبحث عن مدى خطئها أو صوابها وإنما بتفسيرها في إطار جذورها الاجتماعية.
الاجتهاد البشري
ينوه أبوزيد، مثلما فعل في أعماله الأخرى، بأهمية ألا يتحول النص إلى سلطة ثقافية اجتماعية، فما هو مستقر وثابت في الفكر الديني ينتمي في أحيان كثيرة إلى جذور تراثية، وبالكشف عن أسسها الأيديولوجية تنتفي عنه أوصاف الحقائق الثابتة أو ما هو معروف من الدين بالضرورة.
وفي ذلك يقول: إن للأفكار تاريخًا وحين يتم طمس هذا التاريخ تتحول تلك الأفكار إلى عقائد فيدخل في مجال الدين ما ليس منه، ويصبح الاجتهاد البشري ذو الطابع الأيديولوجي نصوصًا مقدسة.
وقد حرص أبوزيد في دراسته للإمام الشافعي أن يضع أحكامه واجتهاداته في سياقها التاريخي الذي لا يحاكمها من منظور الراهن ولا يسعى للحكم بصوابها أو خطئها وإنما يروم بالأساس إلى تقدير فكرة الاجتهاد البشري التي لا ينبغي التوقف عندها بل تطويرها بالنظر إلى احتياجات العصر ومستجداته دون تقديس لشخص أو رأي.
وعن ذلك يقول: في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية تحولت النصوص الثانوية إلى نصوص تمثل إطارًا مرجعيًا في ذاتها.. وتحولت اجتهادات الأئمة إلى نصوص أصلية يدور حولها الشرح والتفسير وهكذا انحصر الاجتهاد في فهم تلك النصوص الثانوية والترجيح بين الآراء والاجتهادات الواردة فيها.. فالدعوة إلى التحرر من سلطة النصوص دعوة إلى التحرر من السلطة المطلقة للفكر الذي يمارس القمع والهيمنة ويضفي دلالات ومعاني خارج الزمان والمكان والظروف والملابسات.
وما سعى إليه أبوزيد عبر حياته بصفة عامة وكتابه عن الإمام الشافعي تحديدًا أن تُحترم المنهجيات الحديثة في التعاطي مع التراث بما يسمح لها بالكشف عن جوانب الضعف التي تنبع من تاريخيته، والكشف عن الإيجابي فيه دون أن يعني ذلك تقديسًا لفكر بشري واجتهاد إنساني.