قدّم درسًا فى تجديد الخطاب الدينى.. لماذا يثير «رسالة الإمام» حفيظة المتشددين؟
يريد التيار السلفي وممثلوه أن تصير صورهم الجامدة عن التراث الإسلامي هي السائدة، لذا فكل محاولة لخلخلة أحد تصوراتهم تصيبهم بالفزع ما يجعلهم يصبون جام غضبهم على مروجيها والمدافعين عنها.
يتكرر ذلك المشهد مع كل محاولة لإطلاق خطاب ديني مغاير يُخالف الأفكار المهترئة التي يحتفظ بها أئمة ذلك التيار، وهي الأفكار التي يسعون إلى لي عنق الواقع كي يتوافق معها ويصير تابعًا لها. من هذا المنظور يتبين أسباب العداء الذي وجهه سلفيون ضد مسلسل "رسالة الإمام" منذ حلقاته الأولى.
كان الشيخ السلفي حاتم الحويني قد كتب منشورًا يحذر فيه من المسلسل ويتهم صناعه بالتزوير، زاعمًا أنه مسلسل خبيث يحرّف سيرة الإمام الشافعي، ما أثار غضب صناع الفن ودفع نقيب المهن التمثيلية أشرف زكي للتقدم ببلاغ للنائب العام ضد الحويني بتهمة التطاول على أبطال مسلسل "رسالة الإمام".
يركز مسلسل "رسالة الإمام"، الذي يتناول سيرة الإمام الشافعي ثالث أئمة الفقه الإسلامي، والذي يقوم ببطولته الفنان خالد النبوي، على الفترة التي قضاها الإمام الشافعي في مصر، والتي كان لها بالغ الأثر على فقهه الذي عدّل الكثير من أحكامه الفقهية بها.
ـ دور الاجتهاد في تغير الفتوى
احتفظ الإمام الشافعي، لا سيما بعد إقامته في مصر، بدرجة كبيرة من المرونة دفعته لتعديل كثير من أحكامه التي سبق ووضعها في بغداد.
في كتابه "دور الاجتهاد في تغير الفتوى" يشير عامر بن عيسى اللهو إلى أن الشافعي قد خالف الأصوليين حين أقر في كتابه"الرسالة"، الذي كتبه في مصر، بأن الاجتهاد هو القياس، فيما رأي أكثر الأصوليين أن الاجتهاد يختلف عن القياس، وأن الاجتهاد أعم من القياس؛ لأن كلام الشافعي قد يُتوصّل به إلى حكمٍ غير منصوص عليه، مرجحين أن يكون كل قياس اجتهاد وليس العكس.
اهتم الشافعي بتوضيح أهمية الاجتهاد في وضع الأحكام الفقهية، فبيّن عبر كتابيه الرئيسيين؛ "الرسالة"، و"الأم" أصول مذهبه حين قال: ليس لأحد أبدًا أن يقول في شيءٍ، حلَّ ولا حَرُم، إلا من جهة العلم، وجهة العلم الخبرُ في الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس.
ـ تغيير الأحكام الفقهية
عُرف عن الشافعي أن له مذهبين؛ الأول هو القديم الذي صنفه بالعراق عام وسماه "الحجة"، أما الجديد فهو ما أفتى به في مصر، عبر إعادة النظر في كتابه "الحجة"، ليضع كتابيه الذي عدّهم أساس فقهه وهما "الأم"، و"الرسالة".
يبين أستاذ الشريعة والقانون عامر اللهو في كتابه أن ثمة أسبابًا قد قادت الشافعي نحو تغيير أحكامه وهي: اطلاعه على أحاديث جديدة لم يسمع بها قبل دخوله مصر تُشكِّلُ أدلةً قوية أمام الأحاديث التي احتج بها في العراق، وتغيّر عادات الناس وطرق معيشتهم في الحياة وأحوالهم بتغير المكان والزمان، وذلك كما في صناعة دباغة الجلود مثلاً التي كانت متطورة في مصر عندما قدم إليها، وكانت تُشكِّل دعامة اقتصادية مهمة بعكس بلاد الحرمين، مما دعا الشافعي إلى القول في مذهبه الجديد ببيع الجلد المدبوغ.
وروي عن الإمام الشافعي قول أحدهم: "ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوما في مسألة ثم افترقنا، ولقيني، وأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى! ألا يستقيم أن نكون إخوانا وإن لم نتفق في مسألة؟
بناء على ذلك، فإن المرونة التي حظي بها الشافعي في التعامل مع مستجدات الزمان والمكان، وتأسيسه لخطاب جديد يلائمهما، وصورته السمحة التي قدمها العمل الدرامي، ممثلة في مواقف عدة تبين رقته الإنسانية وتسامحه مع الضعف الإنساني وتصوره المرن للدين وأحكامه، كل ذلك يختلف كليًا عن النهج الذي يتصور عليه السلفيون أئمة الإسلام وما ينبغي أن يكون عليه الدين، وهو ما يبرر هجومهم الضاري على العمل الدرامي.