ننشر حوارًا عمره ٩٣ سنة
محمد حسين هيكل: كتبت «حياة محمد» لأنى لم أطمئن إلى تناول المستشرقين لسيرة النبى
أثناء أحاديثى الأسبوعية مع شيخ الكتّاب توفيق الحكيم، صباح كل يوم سبت، فى منزله على نيل مصر الخالد بمنطقة «جاردن سيتى»، جاءت سيرة الأدباء الذين تناولوا سيرة نبى الإسلام صلى الله عليه وسلم، ومنهم توفيق الحكيم نفسه، فاعترف لى بأن الذى فتح باب الأدباء إلى السيرة العطرة كان د. محمد حسين هيكل، من خلال كتابه «حياة محمد».
لم تكن مهمة سهلة بالنسبة للأدباء، لذا حين قرر «هيكل» أن يكتب «حياة محمد» كتابة علمية يرد فيها على افتراءات المستشرقين بنفس منهجهم، لم يجرؤ على إصدار كتابه قبل الحصول على موافقة شيخ الأزهر مصطفى المراغى.
وقد طُبع هذا الكتاب عشرات المرات، ولا يزال يُطبع، فما الدوافع والظروف التى جعلت الكاتب الكبير يفكر فى دخول هذا المجال؟
اكتشفنا حوارًا نادرًا للدكتور «هيكل» نفسه، أجراه معه أحمد الصاوى محمد على صفحات مجلة «مجلتى»، التى كان هو صاحبها ومحررها، حسب وصفه لنفسه على غلافها، وتحديدًا عدد مارس ١٩٣٥، أى قبل ٩٣ عامًا.
ونترككم فيما يلى مع نص الحوار.
■ متى وكيف فكرت فى وضع كتاب عن «محمد»؟
- فكرت فى وضع كتاب عن حياة النبى العربى منذ صيف ١٩٣١، وإنما دعانى إلى هذا التفكير، أننى كنت عظيم الثقة بالعلم والطريقة العلمية الغربية، وأنها ستؤدى بالإنسانية إلى معرفة حقيقة الكون، معرفة هى ملاك سعادة الإنسانية.
وظلت ثقتى هذه قائمة حتى أعلنت الحرب الكبرى «الأولى»، وكان أكبر رجائى أثناء ذلك أن أسيغ فى حياتنا فى الشرق صورًا من ثقافة الغرب وأدبه وفنه، وهذا ما دعانى إلى وضع قصة «زينب»، وإلى وضع كتابى عن جان جاك روسو، وهو أيضًا ما دعانى إلى العرض لكثير من كتاب الغرب ورجال الفن فيه.
فلما وضعت الحرب أوزارها لبثت أنتظر نتائجها العالمية فى السلام العام، وحرية الشعوب وحقها فى تصوير مصيرها، وكانت السنون كلما توالت بعد الصلح، تفتح عينى على حقيقة بدأت تقوى صورتها عندى، حتى بلغت غاية القوة فى سنة ١٩٢٠. هذه الحقيقة هى أن العالم يعانى قبل كل شىء أزمة روحية، دفعت كتاب الغرب وفلاسفته إلى التماس العلاج لها فى فلسفة الهند الروحية.
وإلى جانب هذه الحقيقة، لاحظت فى اتجاه السياسة الأوروبية ظاهرة غريبة!! نشاط التبشير المسيحى فى الأمم الإسلامية، وتأييد السياسة الغربية فى ذلك الوقت لأنصار الجمود الإسلامى.
إذ ذاك رأيت أن أدرس لعلى أجد فى حياة النبى الوسيلة لعلاج أزمة العالم الروحية، ولإنهاض الشرق نهضة تبعث فيه حياة جديدة كحياة الغرب بعد القرن الخامس عشر.
وبدأت دراستى بكتاب «السيرة» لـ«ابن هشام»، ثم اطلعت على مؤلف بالفرنسية لـ«إميل درمنجهم»، ثم قرأت عدة كتب أخرى، اقتنعت بعد قراءتها أن هذه الدراسة جديرة بأن تهدى العالم كله سبيلًا جديدًا للحق فى السعادة، إذا هى تمت بروح علمى، وعلى الطريقة الغربية الحالية.
■ هل انتهى الكتاب على الصورة التى تمنيتها أو توقعتها من وضعه؟
- قد انتهى الكتاب على الصورة التى رجوتها، والتى كان نطاق البحث قد ازداد وترامى إلى أبعد مما كنت أتوقع، وكانت نتيجته مع ذلك- وبعد المراجعات التى راجعتها فيه- تحملنى على الاعتقاد بأن من واجبى أن أعود منه إلى عدة نواحٍ جديرة بالبحث، وجديرة بأن تنتج آثارًا جمة الفائدة.
■ إن السياسة قد طغت فعلًا على ذلك وحرمت آلاف القراء الذين يحبونك من جولاتك التى يتلهفون عليها، فهل تنوى بعد هذا الكتاب العودة إلى الأدب الحديث، أم البقاء فى الجو الذى تعيش فيه الآن، أعنى «الجو الإسلامى» وما يحيط بسيرة محمد من سير أخرى ممتعة تنقص أدبنا وديننا فعلًا؟
- لست أدرى كيف أجيبك عن هذا السؤال، فهو يتعلق بالمستقبل، ومن المتعذر على مفكر أن يرسم مستقبل تفكيره، فهو معرض لصدفة من الصدف تتجه به اتجاهًا جديدًا.
وكل ما أستطيع أن أذكره أننى وجدت فى دراسة النبى العربى ودينه وتعاليمه والحضارة التى وضع أساسها، ما خلق أمامى عالمًا جديدًا من عوالم التفكير، لم يكن ذهنى متجهًا إليها من قبل.
لكن مع ذلك لا تزال دراسات الأدب والفلسفة الحديثة تستهوينى، كما أن دراسة تاريخ مصر القديمة، ومصر فى عصورها المختلفة، تغرى طلعتى، فإلى أى من هذه المباحثات أوجه نشاطى المستقبلى؟ لا أدرى، لكننى أحسب أنى لن أستطيع التحول عن فكرة قائمة الآن عندى، هى بحث الحضارة الإسلامية، لا فى تطورها اليوم، بل فى أواخر عهد الأمويين، وأوائل عهد العباسيين، ولكن كما يمكن للباحث استنباطها من الكتاب الكريم، ومن الحديث، ومن عهد النبى نفسه.
■ هل خرجت من مطالعاتك لما وضع عن محمد بأقلام كتاب الغرب إلى فكرة طيبة عن جهودهم وتعمقهم فى بحوثهم، أم أن معالجتهم لذلك الموضوع الخطير كانت سطحية، أو كاملة، أو كانت عليها مسحة الغرض؟
- من المستشرقين الذين عالجوا الكتابة عن «حياة محمد» متأثرون جد التأثر بمسيحيتهم، حتى لا يستطيع الإنسان الاطمئنان إلى إنصافهم، ومنهم منصفون حاولوا أن يكون بحثهم فى حدود الطريقة العلمية. لكن أحدًا منهم لم يحاول تفسير الظاهرات التى يمكن أن يعترض بها اعتراضًا ظاهرًا فى تصرف من تصرفات محمد تفسيرًا علميًا ويبررها.
وأحسب الذين يقرأون ما كتبت فى مناقشة هؤلاء المستشرقين، يشعرون بأنهم لم يكلفوا أنفسهم عناء التدقيق التاريخى للوصول إلى تقرير الحقيقة، وإنى لأرجو أن يكون المشتغلون بهذا الموضوع من المستشرقين فى هذا العهد الذى نعيش فيه، أكثر إنصافًا ممن سبقهم.
■ هل تحب السياسة الآن أم تكرهها؟
- ضحك الدكتور وقال: «السياسة» الجريدة.. أم ماذا؟
أنا لا أستطيع أن أكره الحياة السياسية، وقد كنت فيها منذ ٢٥ سنة، مع أنى أذكر أن السياسة المصرية اليوم فى مفترق طرق لا يدرى الإنسان ما يكون بعده، ولا يستطيع الإنسان أن يقول ما يجب على مثلى ممن عاشوا العهود السياسية جميعها فى العهد الأخير.
وأنا أقول بصراحة إن الواجب علينا أن نعنى بالنواحى الأخرى من حياة مصر، النواحى الاجتماعية والثقافية والعلمية والذهنية، أضعاف عنايتنا بها اليوم، وهذا يكون أكبر أثرًا من الكلام والكتابة فى السياسة، وهذا الأساس لنهوض الأمة الحقيقى، أيًا كان الوضع السياسى الذى تصل إليه، أو تقضى به الظروف عليها. ولهذا لا أتردد فى القول بأن من يعمل فى أية ناحية من هذه النواحى عملًا صالحًا جدير بتقدير الوطن كالرجل السياسى سواء، بل ربما كان أجدر منه بتقدير الوطن وتقدير الإنسانية جميعًا.