«رسالة الإمام».. ما سر اهتمام الشافعي بالفقيه المصري الليث بن سعد؟
يركز مسلسل "رسالة الإمام" الذي يقوم ببطولته خالد النبوي ويعرض حاليًا على الشاشات على الفترة التي أقام فيها الإمام الشافعي في مصر، وما شهده من أحداث ومتغيرات، وأبرز ما استدعى توقفه وانتباهه خلال تلك الفترة.
مسلسل رسالة الإمام
في الحلقات السابقة، نقل المسلسل قلق الشافعي من أن يضيع العلم ولا يُنتفع به وحرصه الشديد على تدوينه وأسفه على ضياع كثير من العلوم التي لم يُدونها صاحبها ولم تنقل عنه، ومن هؤلاء الذين أسف الشافعي على ضياع علمهم الفقيه المصري "الليث بن سعد".
مناظرة حول التعدد الفقهي
جاء في المسلسل أن الإمام الشافعي في لقائه مع السيدة نفيسة أخبرها أنه زار الليث بن سعد، وحزن لأنه لم يجد الرسائل المدونة بينه وبين الإمام مالك ولا أي حرف من علمه رغم كثرة الحافظين الذين سمعوا منه، كما دعا الإمام الشافعي إلى دراسة علم الليث بن سعد وعدم الاكتفاء بعمل الإمام مالك، وردًا على القائلين إنه لا داع لدراسة علم الليث بن سعد طالما هناك علم الإمام مالك، رد الشافعي، في مناظرة حول التعدد الفقهي، أن الإمام مالك كان بينه وبين الليث مشاورات عديدة، وأن دراسة علم مختلف العلماء ليست تشتيتا.
يبدو من خلال المناظرة التي ركز عليها العمل الدرامي حرص صناع العمل على استعادة العلماء المصريين الذين لم يُلتفت بما يكفي لعلمهم وجهودهم رغم أهميتها.
الليث أفقه من مالك
في كتاب "أعلام الإسلام.. الإمام الشافعي" يبين مصطفى عبد الرازق باشا أن لمصر فائدة خاصة في الثقافة الإسلامية، وأنه حق على المصلحين والمجددين في جماعة من الجماعات أن يتبينوا ما سجل التاريخ من منازع العلماء المصريين في علومهم وآدابهم حتى يسيروا في تجديدهم وإصلاحهم على هدى.
كان الليث بن سعد الذي يكنى بأبى الحارث، والمولود في إحدى القرى المصرية بالقليوبية، فقيهًا ومحدثًا، ويذكر المؤرخون أن الشافعي قال "الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به"، وفي رواية أخرى "ضيعه قومه" أي لم يدونوا فقهه كما دونوا فقه مالك وغيره وإن كان بعضهم قد جمع منه شيئًا.
اشتغل الليث بن سعد بالفتوى في زمانه. ونقل عن ابن حجر قوله: "وقد ذكر الشيخ أبو اسحاق في الطبقات أن علم التابعين من أهل مصر تناهى إلى الليث بن سعد. وقال ابن وهب: ومسائل الليث تقرأ عليه، فمرت به مسألة فاستحسنوها فقال رجل ما أحسن ما قال الليث كأنه كان يسمع مالكًا فيجيب، فقال ابن وهب: بل لعل مالكًا كان يسمع الليث يجيب فيجيب، والله الذي لا إله إلا هو ما رأينا أحدا قط أفقه من الليث".
يقول عنه مصطفى عبد الرزاق وعندي أن الليث أقرب إلى سمت أهل الحديث في زهده وورعه، وأقرب إلى أهل الحديث في كثرة رواياته وحفظه. كان طرازًا وحده بين أهل الحديث، وهو الذي مهد للشافعي ذلك المنهج الوسط بين أصحاب الرأي وأصحاب الحديث.
اعتدال فكري
من ثم، أدرك الإمام الشافعي قيمة الليث بن سعد واعتداله في المنهج والفكر، وروي عنه قوله: "ما فاتني أحد فأسفت عليه ما أسفت على الليث بن سعد، وابن أبي ذئب"، كما يروى أن الشافعي وقف على قبر الإمام ليث وقال: لله درك يا إمام، لقد حزت أربع خصال لم يكملن لعالم: العلم، والعمل، والزهد، والكرم.
ومن أوجه اعتدال الليث الفكري قدرته على تبني اتجاه وسط بين فريقين؛ ففي عهد الدولة العباسية نهضت الدراسات الفقهية لحاجة الدولة إلى قانون شرعي منظم، وظهر تميز المذهبين؛ مذهب أهل الحجاز وهم أهل الحديث الذين يعتمدون على السنن ويستكثرون من الروايات، ومذهب أهل العراق الذين كانوا يعتمدون على الرأي كثيرا.
جاء الليث بن سعد، حسبما يروي عبد الرزاق في كتابه، فجعل همه أن يوجه الفقه وجهة جديدة تخرجه من دائرة التخصص بخدمة النظم الحكومية وتخلصه من تساهل أهل الرأي وتشدد أهل الحديث، فكان يقول لأصحاب الحديث: تعلموا الحِلم قبل العلم.
اضطلع الليث بتوجيه الحركة الفقهية إلى الناحية الخلقية الروحية قبل ظواهر الأحكام، ولم يقف علمه عند الحديث والفقه بل أحاط بالمعارف المتداولة في ذلك الزمن، ومنها التاريخ لا سيما ما يتعلق بفتح مصر وتاريخها الإسلامي وما قبل الإسلام.