سرّ مقولة «شمس الدنيا وعافية الناس» عن الإمام الشافعى
أوتي الإمام الشافعي ونهل علومًا عدة، كان في مقدمتها اللغة العربية، ثم علم الكتاب، ففقه معانيه، وطبّ أسراره ومراميه، وألقى شيئًا من ذلك في دروسه، وتعلّم علم الحديث فحفظ موطأ مالك، وضبط قواعد السُّنَّة، وفهم مراميها والاستشهاد بها، ومعرفة الناسخ والمنسوخ منها، وعرف فقه الرأي والقياس، ووضع ضوابطهما لمعرفة صحيحهما وسقيمها، حتى قال عنه بعض تلاميذه ممن نهلوا من علم الشافعي على يديه: "كان الإمام الشافعي إذا أخذ في التفسير كأنه شاهد التنزيل".
أكثرَ العلماءُ من الثناء عليه، حتى قال فيه الإمام أحمد: «كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس»، وقيل: إنه هو إمامُ قريش الذي في حديث منسوب للنبي محمد أنه قال: «عالم قريش يملأ الأرض علماً»
شغل الإمام الشافعي الناس بعلمه وعقله، شغلهم في بغداد ونازل أهل الرأي، وشغلهم في مكة وقد ابتدأ يَخرج عليهم بفقه جديد يتجه إلى الكليّات بدل الجزئيات، والأصول بدل الفروع، وشغلهم في بغداد وقد أخذ يدرس خلافات الفقهاء وخلافات بعض الصحابة على أصوله التي اهتدى إليها.
وعن طلب العلم، كان الإمام الشافعي يدعو الناس إلى طلب العلوم، إذ كان يقول: "من تعلم القرآن عظمت قيمته، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن نظر في الفقه نبل قدره، ومن نظر في اللغة رق طبعه، ومن نظر في الحساب جزل رأيه، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه".
اتفق العلماء من أهل الفقه والحديث واللغة، على أمانة الإمام الشافعي وعدالته وزهده وورعه وتقواه وعلو قدره، إذ كان مناظرًا حسن المناظرة، أمينا لها طالبًا للحق لا يبغي صيتًا وشهرة حتى آثرت عنه هذه الكلمة : "ما ناظرت أحدًا إلا ولم أبالِ يبين الله الحق على لسانه أو لساني".
وكان مجلسه للعلم جامعاً للنظر في عدد من العلوم، قال الربيع بن سليمان: "كان الإمام الشافعي، يجلس في حلقته إذا صلى الصبح، فيجيئه أهل القرآن، فإذا طلعت الشمس قاموا وجاء أهل الحديث، فيسألونه تفسيره ومعانيه، فإذا ارتفعت الشمس قاموا فاستوت الحلقة للمذاكرة والنظر، فإذا ارتفع الضحى تفرقوا وجاء أهل العربية والعَروض والنحو والشعر، فلا يزالون إلى قرب انتصاف النهار".
وعن أحمد بن حنبل أنه قال: "كانت أقفيتُنا أصحابَ الحديث في أيدي أصحاب أبي حنيفة ما تُنزع، حتى رأينا الشافعي، وكان أفقه الناس في كتاب الله عز وجل، وفي سنة رسول الله ﷺ، ما كان يكفيه قليل الطلب في الحديث"، وقال أيضًا: "إني لأدعو لمحمد بن إدريس في صلاتي منذ أربعين سنة، فما كان فيهم (يعني الفقهاء) أتبع لحديث رسول الله ﷺ منه، وما أحد أمسك في يده محبرة وقلماً إلا وللشافعي في عنقه مِنَّة".
وقال عبدالله بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: "أي رجل كان الشافعي، فإني أسمعك تكثر من الدعاء له؟، فقال لي: يا بني، كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين من خلف أو منهما عِوض".
وعن إسحاق بن راهويه أنه قال: "كنا بمكة والشافعي بها، وأحمد بن حنبل بها، فقال لي أحمد بن حنبل: "يا أبا يعقوب، جالس هذا الرجل- يعني الشافعي-، قلت: ما أصنع به، وسنه قريب من سننا؟ أأترك ابن عيينة والمقبري؟، فقال: ويحك! إن ذاك يفوت، وذا لا يفوت، فجالسته".
وروى الذهبي في السير عن الربيع بن سليمان قال: "كان الشافعي قد جزأ الليل، فثلثه الأول يكتب، والثاني يصلي، والثالث ينام.
وظل الإمام الشافعي في مصر ولم يغادرها يلقي دروسه ويحيط به تلامذته حتى لقى ربه في 30 رجب 204 هـ، ومن أروع ما رثي به من الشعر قصيدة لمحمد بن دريد يقول في مطلعها:
ألم تر آثار ابن إدريس بعده *** دلائلها في المشـكلات لوامع.