رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فستان يليق بالفرح

انتهيت قبل أيام من القراءة الثانية لرواية «فستان فرح» للكاتبة رباب كساب، وهو أمر لا أقوم به فى العادة إلا فى حالات نادرة وخاصة جدًا، بل إن بعض الكتب لا يمكننى أن أكمل قراءتها، وبعضها أتخلص منه فور الانتهاء من قراءته، ولا يخطر على بالى العودة إليه مرة أخرى، وهى عادة سيئة بالطبع، لكننى لم أستطع التخلص منها طوال سنوات كثيرة من المحاولة والفشل.. على الجانب الآخر، هناك الكثير من الأعمال التى تجبرنى على إعادة قراءتها مرات ومرات، دون كلل أو ملل، وبكثير من الشغف ومتعة اكتشاف الحياة، وما بها من جمال، وأحيانًا بهدف تغيير حالتى المزاجية أو تحسينها.. كان ذلك يحدث قبل سنوات مع عدد من الأفلام السينمائية التى كنت ألجأ إليها لضبط حالتى المزاجية، أو للتهدئة من بعض الغضب، أو ما شابه من انفعالات، ومنها «عطر امرأة» للعظيم آل باتشينو، و«جسور مقاطعة ماديسون» للفاتنة ميريل ستريب، و«درايفنج مسز ديزى» الذى لا أحب ترجمة عنوانه للعربية، للمبهر مورجان فريمان، و«بقايا اليوم» للمذهل أنتونى هوبكنز، أو «فانتوم ثريد» للجاحد دانيال دى لويس، وغيرها الكثير من الأفلام الذى يغمرنى بمتعة تماثل قراءة الرواية الفاتنة «منزل الجميلات النائمات» لليابانى ياسونارى كواباتا، أو «الحب فى زمن الكوليرا» لماركيز، أو «الطريق»، و«بين القصرين» و«أحلام فترة النقاهة» لنجيب محفوظ، أو «قدر الغرف المقبضة»، و«المهدى» لعبدالحكيم قاسم.. أو كتاب «المبتسرون» لأروى صالح، أو كل ما كتبه نجيب سرور.

ولعله من المناسب أن أعترف هنا بأن شخصية «أحمد الأهبل» كانت هى مفتاحى لإعادة قراءة «فستان فرح»، مثلما كانت «زينب» مفتاحى لإعادة قراءة «تغريدة البجعة» لمكاوى سعيد، تلك الشخصية التى ربما لم تكن فى صدارة ذهن الكاتبة وهى ترسم ملامح شخصياتها من النساء الغارقات فى دوامات الحياة، ومتطلباتهن البسيطة والمشروعة، وأحلامهن المجهضة، انطلاقًا من «رضوى» المدرسة المطلقة، التى تعيش مع طفلتيها من زيجة كان محكومًا عليها بالفشل منذ بدايتها، وينحرها تدبير مصاريف الفتاتين، ويشق عليها «أنها فى كل وقت أرادت فيه أن تكون أمًا كان عليها أن تكون أبًا»، وصولًا إلى زميلتها «مى» التى تصغرها ببضعة أعوام، والتى «لم تتزوج بعد أن خُطبت مرة، وكُتب كتابها مرة أخرى، وفى المرتين نالت فشلًا وهجرانًا بلا أسبابٍ واضحة»، ويقودها جوع الجسد إلى أحضان طليق صديقتها الذى تعرف كل شىء عن خسته فى التعامل مع طفلتيه وأمهما، وحتى «هند» الوافدة على الحارة، التى تسمعها الحارة كلها وهى تسب أطفالها الثلاثة وتضربهم، وتلعن اليوم الذى رأتهم فيه، وعندما تسأل مى رضوى: «لماذا تعاملهم هكذا»، تجيبها بأنها «لا تعاملهم هم، هى تتعامل مع قدرها ليس إلا»، هند التى تصفها رباب كساب قائلة إنها «حادة فى حواراتها، لينة حين تحب، ودودة وقتما تشاء، عذبة حين تنسى وتجلس لتدندن بصوت جميل أغنيات تحبها»، وهى التى تزوجت رغمًا عن أهلها، وفرضت زوجها عليهم، ثم دخل السجن فى قضية شيكات بدون رصيد، وترك لها عبئًا ثقيلًا من الأبناء والفقر، فافتتحت محلًا فى الحارة لتأكل منه هى وأطفالها، أما «عايدة» ناظرة المدرسة، فهى الأم الرءوم الحنون، «لها نظرة فى الناس لا تخطئ توقعاتها أبدًا، تربطها صداقة عميقة برضوى، ومنير وزوجته ماتيلدا، تحذر رضوى من صديقتها مى، فلا تنصت لها فى البداية، وتصر أنها لا تضرها فى شىء، فلا تعرف كيف تفسر شكوكها، إلى أن تصادفها وتراها وهى تضع رأسها على كتف طليق رضوى وهو يحتضنها.

تسير رباب كساب فى روايتها بخطى هادئة، تغزل صورة لحياة طاحنة للجميع، بفعل علاقات مرهقة، وواقع مادى عسير، تحكى عنه بلغة سهلة، وسرد متقن ورائق، لا يغفل تفصيلة، ولا يرهق قارئه بتفاصيل زائدة على الحاجة، فيتصاعد الحدث ناعمًا فى قسوته، وصولًا إلى ثورة يناير، وأحداثها المتلاحقة، لتتداخل كل القصص الصغيرة، وتتجمع الخيوط فى حدث أكبر، تعيد الشخصيات معه اكتشاف نفسها، وقراءة تفاصيل حياتها، ومقدراتها، وقدرتها على التغيير والتغير.

«فستان فرح» التى صدرت طبعتها الأولى عام ٢٠١٢، عن دار الكتاب العربى ببيروت، وقرأت طبعتها الثانية الصادرة العام الماضى عن الهيئة العامة للكتاب، هى الرواية الرابعة لرباب كساب، حسب الغلاف الخلفى للطبعة الثانية، بعد «قفص اسمه أنا» الصادرة عام ٢٠٠٧، و«مسرودة» ٢٠٠٩، و«الفصول الثلاثة» ٢٠١٠، وصدرت بعدها رواية خامسة «على جبل يشكر» عن دار النسيم فى ٢٠٢١، ثم مجموعة قصصية بعنوان «بيضاء عاجية وسوداء أبنوسية» عن منشورات «بتانة»، ولعله من المناسب أن أعترف بأننى لم أقرأ أيًا منها للأسف الشديد، والحقيقة أننى كثيرًا ما كنت أوافق الأصدقاء من الكتاب والفنانين عندما يكسو الغضب وجوههم وهم يشكون من انشغال النقاد بأصدقائهم ومعارفهم، يكتبون عن أصدقائهم فقط لا غير، وربما لا يقرأون أعمال أحد خارج تلك الدوائر الصغيرة، ما جعل من سيطرة الشلة ظاهرة ملحوظة، شديدة الحضور فى الحياة الثقافية العربية، لا المصرية وحدها، وهو واقع مؤسف وبائس وحزين، وربما كان ذلك هو ما دفعنى نهاية الأسبوع الماضى للدخول فى مواجهة مع نفسى، «أنت أيضًا لا تكتب إلا عمن تعرفهم معرفة شخصية، عن كتب الأصدقاء ومشاريعهم الفكرية والأدبية، فمن أين تأتيك الجرأة للوم الآخرين على ممارسة ذات الفعل؟»، ربما التمست لنفسى العذر باعتبارى غير متخصص فى النقد الأدبى أو الفنى، مجرد كاتب وصحفى «على باب الله»، أكتب الشعر والرواية أحيانًا، وأكتب عن ما أحب من الأفلام والكتب، وما يوافق ذائقتى منها، فلا أكتب نقدًا، ولا تحليلًا.. لا شىء سوى كتابة احتفالية بما أحب من إبداع.. فهل هو عذر كاف؟!.. للأسف لا.. 

هذه هى الحقيقة، وهذا ما قررت التخلص منه، والبحث فى مكتبتى عن كتب لم أقرأها لمجرد أننى لا أعرف كتابها شخصيًا، أو لم ألتق بهم، والكتابة عن تلك الأعمال والاحتفال بها.. هنا كانت تلك الرواية التى طالما أغرتنى بإعادة قراءتها، والكتابة عنها..

فليكن إذن.. محبة كبيرة لفستان رباب كساب الذى يستحق الفرح.