احتفاء خاص بصدور الأعمال الروائية للراحل عبدالوهاب الأسوانى
تعيش الأوساط الثقافية فرحة خاصة بصدور الأعمال الكاملة للكاتب الكبير عبدالوهاب الأسوانى، وهو الحدث الذى طالما انتظره القارئ العربى الذى تربى على أعمال الراحل المتنوعة بين الرواية والقصة القصيرة والكتابات التاريخية والمتنوعة.
وطُرحت الأعمال الكاملة، الصادرة عن دار «تشكيل» للنشر، فى الدورة الحالية لمعرض القاهرة الدولى للكتاب، وتضمنت فى مرحلتها الأولى ٧ أعمال روائية، على أن تنشر بقية أعمال الراحل فى القصة القصيرة والكتابات التاريخية فى مراحل أخرى تباعًا، وحظيت بأغلفة فنية عالية المستوى للفنان الكبير أحمد اللباد.
وتضمنت الروايات الصادرة «اللسان المر»، و«سلمى الأسوانية»، و«إمبراطورية حمدان»، و«النمل الأبيض»، و«أخبار الدراويش»، و«كرم العنب»، و«وهبت العاصفة»، وهى الأعمال التى ألقى فيها «الأسوانى» كامل تجربته الإنسانية المتنوعة، وخبراته التراكمية الهائلة فى عالم الكتابة، والتى صنعت أسلوبه الفريد الذى لا يخلط القارئ بينه وبين غيره من الكتاب، سواء من ناحية اللغة شديدة التفرد والخصوصية، أو التكوين الفنى السردى وتقنيات الحكى وصناعة الشخصيات، وهى كلها آليات جمعها وصنعها الراحل على عينه طوال مشواره الإبداعى الطويل.
وتجلى جوهر التجربة الروائية لـ«الأسوانى» فى قدرته الفائقة على أن يكون كاتبًا، لا يكتب إلا نفسه، وفى أن يكون مبدعًا حُرًا، وأن تكون كتابته ابنة بيئتها وثقافتها وطبيعتها وتركيبتها الإنسانية والاجتماعية الخاصة، فصنع من قريته الصغيرة «المنصورية» فى مركز دراو بمحافظة أسوان، عوالم روائية واسعة، وحوّل أناسها العاديين إلى شخصيات من لحم ودم، تتحدث عن إشكالياتها وأفراحها وآلامها، محققًا لنفسه فرادة فى التناول الروائى لمجتمعات القبائل العربية فى جنوب مصر، وهى الفرادة التى تحسب له على مستوى السياقين التاريخى والأدبى.
هذه العوالم نراها متجسدة فى رواية «سلمى الأسوانية» على سبيل المثال لا الحصر، والتى نعايش خلالها شخصية الجنوبى الذى يفتح صدره لهواء البحر، ويشرب معه الكثير من الثقافات المتنوعة، فيوضع بين شقى الرحا، بين بيئته وثقافته المحافظة، وأحلامه وتطلعاته نحو عالم أكثر تنوعًا وانفتاحًا، وهى الرواية التى كانت هناك مساعٍ لتحويلها إلى فيلم سينمائى من إخراج صلاح أبوسيف، وسيناريو محسن زايد، لكن المشروع لم يكتمل.
كما نطالع فى «النمل الأبيض» مثلًا، والتى تعد من درر أعمال «الأسوانى»، خريطة كاملة للتحولات الاجتماعية والثقافية التى حدثت للمجتمع المصرى فى فترة ما بعد منتصف التسعينيات، وتحديدًا وقت ما سُمى بـ«عصر الانفتاح»، منطلقًا خلال رصد تلك الظواهر، من عالم القرية الصغيرة أيضًا، لتكون نموذجًا وبيّنة على ما تعرض له المجتمع من تغيرات هائلة لا يزال يعانى تبعاتها حتى أيامنا هذه، لكن «الأسوانى» لم يترك قارئه حيال تلك التغيرات، هكذا دون دليل أو إرشاد معنوى، فيقدم أيضًا موقفه ورؤيته للحل وخطته لاستعادة تكاتفنا ولم شملنا من جديد.
وفى «إمبراطورية حمدان»، العمل الذى وضع به الراحل آخر قطعة فى مكتبة جواهره النفيسة، نرى كذلك شخصية الجنوبى ابن القبيلة العربية ذات التقاليد والأعراف، وهو يتمرد على واقعه باحثًا عن عالم جديد يحقق من خلاله ذاته، فيجد البراح فى هواء الإسكندرية، ليقدم الراحل ليس فقط رحلة صعود «حمدان» المكافح بطل العمل، بل سيرة موازية لمدينة الثغر فى فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، وهى المدينة التى احتضنت «الأسوانى» نفسه فى بدايات حياته، فانكشفت أسرارها إليه، مقدمًا للقارئ تفاعلات حية وشخصيات غاية فى الاختلاف والثراء.
لم يتناول «الأسوانى» الشخصية الجنوبيّة فى روايته، تحيزًا أو شعبوية، إنما كمثال إنسانى، صنع من خلاله عوالم فنية شديدة التفرد والتماسك والعبقرية، ومنطلقًا من خلاله إلى رؤية رحبة تتسع للجميع.