«مولاى إنى ببابك».. الشيخ النقشبندى
لم يكن يخطر فى بالى وأنا ابن الثانية عشرة من عمرى حينما كنت أفتش فى جهاز الكمبيوتر الجديد عما وضعه لى البائع فى الجهاز أننى سوف أجد فيه ما يجعلنى أقع فى غرام شخص قد انتقل إلى رحمة الله منذ ما يزيد عن عشرين عامًا!
أقلب هنا وهناك عن بعض المقطوعات الموسيقية أو الأفلام أو غيرها، و إذ بى أجد ملفًا عنوانه «ابتهالات».. دخلت المجلد لكننى لا أدرى وقتها بأننى قد دخلت عالمًا واسعًا لم أخرج منه حتى اليوم.. إنه عالم الشيخ سيد النقشبندي.
كثيرة تلك الابتهالات التى وجدتها فى ذلك الوقت وإنما لم أقع فى أسر واحد منها كما وقعت فى أسر «مولاى».
مهما لقيت من الدنيا وعارضها، فأنت لى شغل عما يرى جسدى
تحلو مرارة عيش فى رضاك وما أطيق سخطًا على عيش من الرغد
كلمات كانت تسرى من الأذن وتدخل القلب بلا استئذان، ولم تكن العين فى حاجة إلى مزيد من الجهد حتى تنهمر بالدموع النابعة من أعماق القلب، والكلمة تدفعك إلى أختها والبيت إلى تاليه وهكذا حتى تنتهى من الابتهال كاملًا وقد غرقت تمامًا فى محبة الله وشعرت بمعيته وامتلأ قلبك بمعانٍ وفيوضات وتجليات تغنيك عن سماع العشرات من المواعظ والحكم.
بعد التنفتيش والتنقيب عن سر الجمال والعظمة فى هذا الابتهال، وجدت أن للأمر قصة يعرفها الكثيرون حكاها الإذاعى الكبير الأستاذ وجدى الحكيم، فقد كان الرئيس السادات مغرمًا بالشيخ النقشبندى منذ فترة طويلة وفى عام ١٩٧٢ وفى حفل زفاف ابنة الرئيس فى استراحة القناطر الخيرية، كان الشيخ النقشبندى مدعوًا ليحيى الحفل بأناشيده الرائقة، وحينما سلم على الرئيس السادات أمسك بيده وطلب أن يأتوا بالموسيقار بليغ حمدى وأعطى أمرًا لوجدى الحكيم قائلًا: «اقفل عليهم الاستديو لحد ما يطلعوا حاجة»
أراد السادات ان يتعاون بليغ حمدى مع الشيخ النقشبندى ملحنًا له ابتهالًا جديدًا يضم موهبة فائقة الإبداع وصوتًا قويًا خاشعًا واسع الطبقة لن يتكرر كثيرًا.
فى البداية خاف الشيخ من هذا التعاون وأسر بذلك لوجدى الحكيم حيث إن ألحان بليغ لن تتناسب مع جلال الكلمات التى سوف يلقيها الشيخ، لكن الحكيم طلب منه الاستماع أولًا ثم اتخاذ القرار..
تركهم الحكيم ساعة فى الاستديو ثم دخل، فوجد الشيخ قد خلع عمامته والجبة والقفطان.. قائلًا: بليغ ده جن مش بنى آدم!.. و كانت «مولاى».
ظل الشيخ عندى وعند جل المصريين حالة وليس مجرد صوت، فحينما تسمع صوته وهو يدعو «الله يا الله» تشعر توًا أنك تسللت إلى لحظات ما قبل الإفطار فى شهر رمضان الكريم فقد أصبح النقشبندى من ملامح الشهر الكريم لدى المصريين، وإذا سمعت صوته فى منتصف الليل فهو يكفيك تمامًا لأن يخشع قلبك وتسكن نفسك وترفع يديك الى السماء داعيًا مستغيثًا بربك.
حسب ما أورده الكاتب عمر طاهر من حوار له مع ابنة الشيخ رحمه الله أنه قرأ قرآن الجمعة فى مسجد التليفزيون ثم خرج وزار أخاه وأعطاه ورقة.. قال له لا تفتحها إلا وقت اللزوم، ثم عاد إلى بيته.. ما إن وصل إلى بيته حتى كانت آخر لحظاته وانتقل إلى الرفيق الأعلى.. فتح الأخ الورقة فوجد الشيخ سيد قد كتب فيها:
«سأموت غدًا، لا تقيموا مأتمًا، واكتفوا بنشر النعي، وادفنونى فى العنوان المذكور».. وكتب العنوان.
فى العنوان المذكور وجدوا مقبرة جاهزة بلوحة رخامية تحمل اسم الشيخ سيد، فسألوا إن كانت قيمة المقبرة قد سددت بالكامل، فقيل لهم:
لقد سدد الشيخ ثمنها كاملًا منذ عدة أيام.
رحم الله الشيخ النقشبندى.. وللحديث بقية