وليد الخشاب: أبهرتني شخصية فؤاد المهندس.. وكتابي عنه تحليل ثقافي لقضايا جادة (حوار)
دكتور وليد الخشاب أستاذ ومنسق الدراسات العربية بجامعة يورك، كندا منذ عام 2007، ومدير جماعة الدراسات العربية الكندية. في عام 2003 حصل على الدكتوراه من جامعة مونتريال في السينما والأدب المقارن وعنوانها "الميلودراما في مصر".
في 2004 أدار تحرير كتاب: "العرب: الخروج من الأزمة؟" المنشور في دار كورليه الفرنسية، وأتبعه بما يتجاوز ستين فصلاً في كتاب ومقالاً أكاديمياً حول الثقافات العربية والإسلام، لا سيما قضايا الهوية الثقافية والحداثة في السينما والأدب والثقافة الدارجة. نشرت دراساته بالعربية والفرنسية والإنجليزية في دورهام ومونتريال وباريس وإسطنبول والقاهرة.
في مجال النقد الأدبي والثقافي، نشر كتاباً من تأليفه، وأدار تحرير ثلاثة كتب، بالإضافة إلى عشرات الدراسات النقدية المنشورة باللغة العربية عن المسرح والسينما والأدب في العديد من الدوريات الثقافية (مثل "الطريق" و"القاهرة" و"أخبار الأدب" و"مرايا") أو السيارة (مثل "الأهالي" و"الأهرام" و"الحياة" و"الكواكب" و"الفن السابع"،)، وكذلك الدوريات المحكمة (مثل "فصول" و"ألف"). “الدستور” التقته وكان الحوار عن أحدث مؤلفاته السينمائية / الأدبية.. إلى نص الحوار:
_صدر لك هذه الأيام كتاب "مهندس البهجة" عن فن فؤاد المهندس وتنشره دار المرايا القاهرية. لماذا اخترت أن تخصص كتابا كبيراً لفن فؤاد المهندس يزيد عدد صفحاته عن 220 صفحة من القطع المتوسط؟
كانت والدتي رحمها الله تصطحبني دائما إلى دور السينما منذ طفولتي الأولى، ومنها تشربت حب السينما منذ نهاية الستينات من القرن العشرين. ربما كان عمري أربع أو خمس سنوات عندما شاهدت معها أول فيلم في دار من دور وسط البلد، ولعله فيلم "ماسح الأحذية" الإيطالي أو ربما كان فيلم "جحا" السوفييتي. لكنها لم تكن تكتفي باصطحابي إلى عروض الأفلام التي تحبها هي، بل كانت تذهب معي بدأب لحضور العروض الأولى لأفلام فؤاد المهندس في مطلع السبعينات، لأنها كانت تعرف أني أعشق فنه وأستمتع بالضحك في أفلامه. بالإضافة إلى "مقررات" التلفزيون في الستينات والسبعينات، من مسرحيات فؤاد المهندس وشويكار في أيام الأعياد والاحتفالات، مثل "حواء الساعة 12" و"سيدتي الجميلة"، كنت استمتع بأفلام مثل "شنبو في المصيدة" و"أخطر رجل في العالم" عندما يعرضها التلفزيون. لكني حضرت العروض الأولى في السينما لأفلام "أنت اللي قتلت بابايا" و"عماشة في الأدغال" و"فيفا زلاطا"، وكلها من بطولة فؤاد المهندس، سواء في دور الدرجة الأولى أو دور الدرجة الثانية. فنوعاً ما، عودتي إلى فؤاد المهندس هي زيارة ثانية لطفولتي وربما كانت تحية لوالدتي ولكل أب وأم يحرصان على نقل الولع بالسينما إلى الأبناء.
_ هل هناك فيلم بعينه لفؤاد المهندس أثَر فيك منذ الطفولة؟
ربما احتفظت في جانب من جوانب الذاكرة بتأثير صدمة عنوان أول فيلم للمهندس أشاهده في السينما: "أنت اللي قتلت بابايا"، لأن مسألة قتل الأب ليست بالهينة بالنسبة لطفل مثلي لم يلتق أباه كثيرا قبل وفاته عام 1974. وربما توحدتُ مع بحث شويكار عن أبيها أو عمن قتله في الفيلم. المهم أن قسماً لا بأس به من كتاب "مهندس البهجة" مخصص لتحليل هذا الفيلم ولربطه بموضوع موت الأب الرمزي، الذي كان موضوعاً طاغي الحضور في الكوميديا والميلودراما بمصر، لا سيما بعد مرحلة التحرر الوطني. قد يبدو هذا الموضوع على السطح مجرد حبكة للتهريج في الفيلم، لكني آخذه مأخذ الجد وأرى فيه تأملا في تيمة موت الأب أو غيابه، بالتوازي مع الموت الرمزي للزعيم ناصر، بعد نكسة 1967، والذي يمكن أن نعتبره -بمعنى ما- مثال الأب بألف لام التعريف، باعتباره أبا التحرر الوطني. المثير أن الفيلم يكاد يتنبأ بوفاة الزعيم ناصر، حيث إن إنتاجه قد بدأ على الأرجح في حياة ناصر، وعرض في السينما بعد رحيل الزعيم. وعلى كل حال، فالمسلسل الإذاعي "أنت اللي قتلت بابايا" والذي اقتبس ليصبح الفيلم بالعنوان نفسه، قد أذيع عام 1969، أي في حياة ناصر. وبالتالي، أرى وجاهة في اعتبار المسلسل ثم الفيلم نوعاً من النبوءة التي تحدس أن "أبا الأمة" ناصر سوف يغادر عالمنا (رغم المفاجأة التي يكشف عنها الفيلم في دقائقه الأخيرة).
_في طفولتك وبداية الشباب ألم يكن هناك نجوم كوميديا آخرون يلفتون نظرك غير فؤاد المهندس؟
كان إسماعيل ياسين نجما كوميديا كبيرا حين بدأ فؤاد المهندس مشواره الفني. وكنت أستمتع أيضا بمشاهدة أفلامه في التلفزيون. لكني أدركت سريعا منذ الطفولة أن نجمي المفضل هو فؤاد المهندس. ليست المسألة مسألة جيل. من ناحية، نعم: إسماعيل ياسين كان النجم الفكاهي الكبير بالنسبة لمن ولد قبلي بعشر سنوات أو بعشرين عاماً، بينما تفتحتُ على الدنيا في نهاية المرحلة التي كان فؤاد المهندس فيها أكبر نجم كوميدي في نهاية الستينات ومطلع السبعينات. لكن نجم جيلي الكوميدي هو عادل إمام، الذي بدأ خطواته الفنية الأولى قبل مولدي بعام أو اثنين وأصبح نجما كبيرا وأنا على أعتاب المراهقة، من خلال مسرحية "شاهد ما شافش حاجة". ومع ذلك، فمن يشغلني بين كل هؤلاء هو فؤاد المهندس، ربما لأنه كلاسيكي، صالح لكل زمان ومكان إلى حد ما، وربما لارتباطي بفنه منذ الطفولة، وربما لأنه أخلص لفن الكوميديا فلم يمثل أدواراً جادة إلا على نحو نادر، وربما لأن حرفيته العالية الجسدية والحركية تفوق في رأيي نظائرها عند كل الكوميديانات الذين قدموا فن الفارس. وعلى كل حال، رغم أن كتاب "مهندس البهجة" مكرس لفؤاد المهندس، فإن حس المقارنة عندي، والاحتياج لتوضيح سياق عمل فؤاد المهندس في تاريخ الكوميديا العربية استدعى أن أخصص في الكتاب فقرات سريعة عن نجيب الريحاني وإسماعيل ياسين وعبد المنعم مدبولي وعادل إمام، في إطار الإشارة لتمايز المهندس عنهم أو استفادته من بعضهم أو تأثيره على بعضهم الأخر.
_ يتوقع القارئ أن كتاباً عن فؤاد المهندس، مثل غيره من نجوم المسرح والسينما، يكون كتاباً جماهيرياً يحتفي بتاريخ النجم. فهل لجأت في كتاب "مهندس البهجة" إلى أسلوب وتناول يستهدف الجمهور العريض ويخالف المعتاد في إنتاجك الأكاديمي؟
كتابي عن فؤاد المهندس صادر عن دار المرايا التي تتميز بإصدارات من العيار الثقيل في مجالات التاريخ والاقتصاد السياسي والنقد الثقافي، وإن كانت كتبها لا تتوجه فقط لنخبة مثقفة محدودة. منحتني الدار دعمها في ثلاثة كتب نشرتها لي: ديوان "كشك اعتماد"، وكتاب "الاقتباس من الأدب إلى السينما" الذي حررته مع الصديقة سلمى مبارك وشارك فيه العديد من النقاد والأكاديميين، وكتاب "مهندس البهجة". أشعر بالامتنان لدينا قابيل ويحيى فكري الناشرين المجددين، وللفنان أحمد اللباد على غلافه الذي يركز مضمون الكتاب في لوحة بصرية.
أما عن كتابي "مهندس البهجة" تحديداً، فقد حاولت أن يكون الكتاب موجهاً لجمهور المتعلمين. فهو ليس سرداً صحفياً يورد معلومات وتواريخ، ولكنه تحليل ثقافي لقضايا جادة لا تلفت نظرنا في المعتاد، لأنها مطروحة في أفلام كوميدية تبدو "تافهة" و"طفولية" على السطح. الكتاب ليس مكتوباً بأسلوب أكاديمي متخصص، لكنه أيضاً ليس تناولاً خفيفاً لفن فؤاد المهندس. فقد حاولت أن ألتزم بالقاعدة التي أطلقتها منذ بداية مشروعي لدراسة الكوميديا: الكوميديا مسألة جادة. وفي الكتاب التزمت أسلوباً يسعى إلى أن يكون في متناول القارئ المثقف لكن غير المتخصص وغير الأكاديمي. أزعم أن المهتم بالكوميديا وبفؤاد المهندس من جمهور المتعلمين سوف يجد ما يشده في التحليل التاريخي والسياسي لأفلام المهندس. أما القارئ المثقف فسوف يجد ما يهمه في التحليل الذي يفترض توازيات بين البنية المجتمعية والسياسية في مصر الناصرية وبين البنية الدرامية في كثير من أفلام المهندس.
_ ما الجديد الذي تطرحه في كتاب "مهندس البهجة"؟.. ماذا يضيف إلى ما يعرفه الجمهور بالفعل عن فن فؤاد المهندس؟
فؤاد المهندس لا ينتهي أبداً، مثلما اشتهرت شخصية مستر إكس بأنها تختتم فيلم "عودة أخطر رجل في العالم" بقولها: "إكس ما لوش نهاية". وبالتالي، هناك دائما الكثير الذي نحتاج إلى دراسته وتحليله في أعمال فؤاد المهندس، خاصة أن إنتاجه تنوع بين كافة الوسائط ووسائل إنتاج الترفيه من إذاعة وتلفزيون ومسرح وسينما، وامتد على الأقل منذ بداية الخمسينات وقبلها إلى بداية القرن الحادي والعشرين. حياة فنية دامت ما لا يقل عن نصف قرن، حفلت بالنشاط والتجدد، بها الكثير مما يستحق الدراسة والتحليل.
في الكتاب، أركز على تفاعل أفلام فؤاد المهندس مع سياقها التاريخي، في الفترة الناصرية وامتداداتها، وأعني تحديداً الفترة الممتدة من الستينات، منذ إعلان الميثاق ومنذ تحول فؤاد المهندس إلى نجم أول على الشاشة، وحتى منتصف السبعينات، حين بدأت الدولة في تحرير الاقتصاد بما عرف باسم سياسة الانفتاح الاقتصادي، وهي كذلك اللحظة التي انتهى عندها ظهور المهندس كنجم أول في السينما.عبر الفصول المختلفة، يمكن للقارئ أن يتابع التوازي بين التهريج في الكوميديا التي يقدمهافؤاد المهندس، والمفارقات الكوميدية المبكية معاً على صعيد التاريخ في مرحلة العصر الذهبي للمهندس في السينما، وبالتحديد فترة الستينات ومطلع السبعينات. في الكتاب أرصد الازدواج بين الخطاب الظاهر عن الحرية وباطن الأمور البعيد عن التحرر في الفترة الناصرية، وهو ازدواج موازٍ لازدواج شخصيات فؤاد المهندس بين إكس الشرير ومفتاح الطيب. وأحلل التناقض بين الاقتباس المستمر من المسرح والسينما الإنجليزيين في معظم أعمال فؤاد المهندس في السينما والمسرح، وبين تصور فؤاد المهندس باعتباره يقدم كوميديا مصرية أصيلة تعبر عن الإنتاج الثقافي المستقل والمتحرر من الاستعمار الإنجليزي. وأقدم فرضية عن تركيز أفلام المهندس على قصص محورها الجريمة بشكل ضاحك، والتي أراها موازية لشعور لا واعٍ بوجود جريمة كبرى ترتكب في حق المجتمع ككل، ولنسم هذه الجريمة بالاستبداد السياسي. من هنا يأتي العنوان الفرعي لكتاب "مهندس البهجة" وهو "فؤاد المهندس ولاوعي السينما". ففرضيتي هي أن أفلام المهندس تكشف بشكل لاواعٍ عن أزمات المجتمع في الفترة الناصرية، مثلما في تركيزها على دور الشرطة في حل ألغاز الجرائم، الذي يمثل اعترافاً لاواعياً بتغلغل دور الأمن في بنية المجتمع.
_هل معنى ذلك أن كتاب "مهندس البهجة" يركز على فؤاد المهندس بوصفه نجماً سينمائياً فقط؟ فماذا إذاً عن مكانته كنجم مسرحي؟
الكتاب يركز على إنتاج المهندس في السينما في فترة نجوميته، وإن كان لا يخلو من صفحات عديدة تحلل إنتاجه المسرحي والإذاعي والتلفزيوني. بالقطع، يصعب تناول جانب من جوانب منجز فؤاد المهندس الفني، دون الإشارة للجوانب الأخرى، وخصوصاً أن عمله ثري بالتداخلات والإحالات بين نوع فني وآخر. فكثير من مسلسلاته الإذاعية تحولت إلى أفلام، وبعض مسرحياته تحولت أيضاً إلى أفلام. كذلك أنماط الشخصيات التي كان يقدمها، وأنماط العلاقات مع شخصيات النجمة شويكار التي كانت تمثل معه ثنائياً ذهبياً، كله هذه كانت أنماطاً عابرة للمسرح والإذاعة والسينما. كما أن المفارقة بين تقديم فؤاد المهندس لكوميديا مصرية في عهد التحرر الوطني وبين اعتماد هذه الكوميديا على الاقتباس من الإنتاج الثقافي لدولة الاستعمار الإنجليزي كانت مفارقة موجودة في مسرحيات المهندس وأفلامه. فالكتاب يخصص ما يقترب من ربع مضمونه لتحليل أعمال مسرحية وإذاعية وتلفزيونية للمهندس، لكن تظل ثلاث أرباعه معنية بتحليل أفلام قام المهندس ببطولتها، مع التركيز على الأفلام المحببة جماهيريا، التي قام ببطولتها مع شويكار. وربما يعرف القارئ فيلمي "أنت اللي قتلت بابايا" و"فيفا زلاطا" الذين يحللهما الكتابفي صفحات مطولة. لكن ربما لا يعرف الكثيرون فيلماً مثل "مدرسة المراهقين" من بطولة فؤاد المهندس وشويكار، الذي أوليته عناية خاصة في تحليلاتي، نظراً لأهميته الثقافية. وقد لا يتفق القارئ مع أطروحاتي أو منهجي، لكن طموحي هو تقديم رؤية جديدة للفاعلية الثقافية لأفلام فؤاد المهندس. المؤكد هو أن الكتاب لا يكتفي بعرض الصورة المعتادة عن فؤاد المهندس كنجم تسلية راقية، وإنما يزعم الكشف عن قيمة فن المهندس التاريخية والرمزية.