في باريس تفوق علي أقرانه الفرنسيين
أعلام العشرينيات في القرن الماضي.. محمود مختار أول مثال مصري منذ الفراعنة
يعد المثال محمود مختار من أبرز العلامات المضيئة الفنية في عشرينيات القرن الماضي، والذي تحتفي بهم وزارة الثقافة المصرية، خلال الشهر الجاري، والتي استهلت بمؤتمر “عشرينيات القرن الماضي.. علامات فارقة وإنجازات مضيئة”.
محمود مختار صاحب تمثال “نهضة مصر” والقابع حاليا أمام جامعة القاهرة، والعشرات غيره من أهم المنحوتات في تاريخ النحت المصري، مثل: رياح الخماسين، حاملة الجرار، سعد زغلول، حارس الحقول، عروس النيل، كاتمة الأسرار، بنت الشلال، الحزن وغيرها.
يقول محمود مختار: “أنا أول مثال مصري منذ الفراعنة، قد تعجبون لذلك، لكن تفسير الأمر ليس يسيرا، فقد عشنا ألفي عام تحت وطأة الاحتلال، ولم يكن للمصريين حرية، والفن لا يعيش ولا يتقدم إلا في جو من الحرية. حاولت أن أبحث في فلاحات مصر عن نموذج يربط الحلقات التي انقطع وصلها منذ ألفي عام.”
في طفولته كان محمود مختار شغوفا بالعب بـ"الطين" وتكوين نماذج مما يحيط به داخل قريته “طنبارة”، فيصنع تماثيل للحيوانات التي يراها ووجوه الفلاحين في قريته ومن ثم يضع هذه التماثيل في الفرن لتنضج ويحول إلي ألعاب يلهوا بها مع أصدقائه. وهي ما تعتبره الدكتورة أمل نصر، أستاذ ورئيس قسم التصوير بكلية الفنون الجميلة بجامعة الإسكندرية أعماله الأولي.
انتقل محمود مختار للإقامة في القاهرة داخل أحد أحياءها الشعبية، تحديدا في حي الجماميز بالسيدة زينب، علي بعد أمتار من مدرسة الفنون الجميلة. في هذا الوقت كانت قد ظهرت ملامح الشخصية القيادية لدي محمود مختار حتي أن أصدقاءه أطلقوا عليه لقب الـ"عمدة".
خلال هذه الفترة كان “مختار” يبحث عن طريقة للدراسة الأكاديمية، وهو ما وجده في إعلان عن مدرسة الفنون الجميلة المزمع إقامته من قبل الأمير يوسف كمال، لكن ظهرت العقبة في اعتراض والدته وشقيقه الأكبر الذي طلب منه العودة إلي القرية لإدارة شئون العائلة، إلا أنه أصر علي الالتحاق بمدرسة الفنون الجميلة حيث أحلامه وطموحاته.
ــ تشكل ملامح موهبة محمود مختار في مدرسة الفنون الجميلة
استعان الأمير يوسف كمال بأساتذة للفنون من فرنسا وإيطاليا للتدريس في مدرسة الفنون الجميلة، حيث قابل محمود مختار “لبلاني” مدير المدرسة الفرنسي الذي أعجب كثيرا بموهبة مختار.
ويلفت المؤرخ والناقد التشكيلي دكتور ياسر منجي، إلي أن: “عندما يسمح ”لبلاني" مدير مدرسة الفنون الجميلة لشاب في مقتبل عمره لا زال في سنته الدراسية الأولي، أن يستقل بمشغل “محترف” نحتي كامل، وهي ميزة لم تكن تتوفر إلا بمدرسي مدرسة الفنون الجميلة وأساتذتها الأجانب.
علاقته الأخري بأستاذ آخر في مجال التصوير الزيتي وهو “باولو فورشيلا”، حيث أختلط محمود مختار بأسرته والتي كان بعض أفرادها مقيمين بالقاهرة، لدرجة أنه قد نشأت علاقة حب بين محمود مختار وإحدي فتيات عائلة "فورشيلا"، لكنه لم يبح لهذه الفتاة بحبه لها، بل ظل يكتمه حتي عبر عنه من خلال تمثاله المعروف باسم الـ "الحب".
في أعماله الأولى التي ضمتها حدود المدرسة الأكاديمية، صمم محمود مختار ثماثيل: الزنجية، محمد حسن، ابن البلد، حارث الحقول، والمتأثرة بالمدرسة الكلاسكية الفرنسية. غير أن محمود مختار كان محظوظا عندما قرر الأمير يوسف كمال إرساله في بعثة تعليمية في منحة دراسية لاستكمال دراسة الفنون في فرنسا.
وفي باريس استطاع محمود مختار أن يثبت وجوده في خضم الحركة الثقافية والفنية في عشرينيات القرن المنصرم، ويتفوق على أقرانه من الطلاب الفرنسيين بأسلوب يجمع ما بين الهوية المصرية وما تحمله من عبق تاريخي في حضارتها القديمة، وبين الأصالة والحداثة الموجودة آنذاك.وهو ما يتجلي في أعماله : الحزين، كاتمة الأسرار، والذي أستلهمه من الفنان المصري القديم، رغم كون محمود مختار ابن النحت الأوروبي الإيطالي بحسب الفنان “ناثان دوس”، فنجد في تمثاله “إيزيس” استخدام لخامة الرخام الأبيضو وفيه يمزج بين الحضارة المصرية والحضارة الأوروبية.
خلال تواجده في باريس اختلط محمود مختار وتعرف على المعارض والاتجاهات الفنية المعاصرة في ذلك التوقيت، وكان حلم حياته أن يشارك في المعرض العام الذي يقام سنويا للفنانين الفرنسيين، وبالفعل يشارك فيه وحاز على إنبهار وإعجاب رواد المعرض، وبدأ النقاد الفرنسيين يكتبون عنه وعن أعماله، خاصة تمثاله “عايدة” الذي استلهمه من شخصيات أوبرا عايدة. في هذا التمثال يظهر ملمحين مهمين في أسلوب محمود مختار، الملمح المصري القديم، والملمح البطلمي أو الإغريقي، فنجد شموخ الكتلة وعظمتها ورسوخها لكن فيها أيضا الملمح الإنساني بحسب الدكتورة أمل نصر.