«قرأ السير الشعبية وأحرق والده الكتب بسبب رسوبه».. حكايات من طفولة خيري شلبي
اشتهر الأديب الراحل خيري شلبي (31 يناير 1938 - 9 سبتمبر 2011) برواياته وقصصه القصيرة وحتى مقالاته الحافلة بالحكايات والشخصيات النابضة بالحياة، وتلك الحكايات هي نتاج خبرة الحياة، وتفاصيل أخرى كثيرة، فمنذ طفولته تكونت لديه ملكة الملاحظة، وجدها في المناخ الذي نشأ فيه، حيث كانت مندرة منزله بقرية شباس عمير التابعة لمركز قلين بمحافظة كفر الشيخ "مقرأة"، التي لعبت دورا كبيرا في إبداعه، إذ كانت تقرأ فيها السير الشعبية مساء وجريدة "المصري" صباحا، وكتب التفسير والفقه وتفسير الأحلام، وما إلى ذلك في فترة المساء والسهرة.
وفي حوار له بمجلة "مكة الثقافية" مع الكاتب سمير درويش، بعددها رقم 2 الصادر بتاريخ 1 أكتوبر 2007، كشف عن أن حديث السياسة أيضا كانت يتخلل الأوقات كلها ويفرض نفسه أثناء الحديث في المندرة، مستطردا: خاصة أن طفولتي كانت في حرب عالمية ثانية، فحينما كانت الحرب في أوجها كان سني حوالي ثلاث سنوات على الأكثر، وحينما كنت في الخامسة أو السادسة كنت على وعي بأن "هتلر" قد انتحر كنت أردد هذه العبارة وسط دهشة الكبار في المندرة، وحاولوا معرفة كيف وصل إلي هذا الخبر السري الذي لم يكن قد بات حقيقة فلم يستطيعوا، حتى أبي نفسه حار في كيفية التقاطي للعبارة من خلال كلامه ثم تبقى في ذاكرتي وأرددها بهذا الوعي.
وخلال فترة طفولته أيضا، نمت لديه ملكة "الملاحظة الدقيقة" لكل ما يدور حوله من حياته ومن التقاهم من شخصيات، ثم جاءت علاقته بالسير الشعبية قائلا عنها: قرأتها في سن العاشرة كاملة، لأنني كنت أقرأ، وكان والدي يقرأ للناس على المصاطب وفي الدكاكين شخص واحد، وكان كثيرا ما يتغيب فأحل محله وأقلده، فأضيفت إلى ملكة الملاحظة عندي ملكة التقاط ما وراء الأحداث والكلمات من معان كثيرة، أكون قادما من المدرسة حاملا مخلاتي على كتفي فيتلقفونني في الشارع قائلين: "بسرعة تعالى علشان تخلص لنا أبو زيد من الأسر"، فأرمي حقيبتي في الدار وأمضغ لقمة سويعة وأجري إلى دكان الخياط وأجلس على المصطبة وأقرأ لهم الفصل الذي يخلصه.
ورغم أن والده هو الذي لفت نظره لقراءة كتب الأدب، ونصحه بأن يخصص كشكولا ينقل فيه ما أعجبه من عبارات وأفكار ويلخص ما قرأه من كتب الأدب، ورغم أن مكتبته الأدبية كانت هي المهد الأول والأساس الذي نمت في ظله هوايته لقراءة الأدب، فإن كان أول من انقلب عليه ضد هذه العادة وبات أول من يحارب كل كتاب خارج كتب المنهج الدراسي وهذا ما أوضحه في مقال له بمجلة "فصول" جاء بعنوان "لا حرية لكاتب في مجتمع غير حر" بعددها رقم 3 والصادر بتاريخ 1 يوليو لعام 1992.
كان والده يرى أن هذه الكتب تعطله عن المذاكرة، وهذا ما أكد عليه خيري شلبي: "فالويل لي كل الويل إذا ضبط معي كتاب مزوق الغلاف حتى وإن كان مدرسيا، خاصة إذا كان الكتاب رواية أو مجموعة قصص أو ديوان شعر، وكان عذره في ذلك أن هذه الكتب هي التي تعطلني عن المذاكرة، وتفتح ذهني على ما يجب ألا أعرفه في هذه السن المبكرة إذ إن هناك أشياء إذا ألم بها الإنسان في صغره ثقلت عليه وأفسدت مزاجه وأصابت توازنه العقلي بالخلل".
حينما حالفه سوء الحظ بالرسوب في امتحان السنة الثانية بمعهد المعلمين العام، فكان يوما عصيبا يوم بلغ والده النتيجة، فبعد أن علم اندفع يجري نحو الداخل فظنه يبحث عن سكين يذبحه بها، ولكن ما فعله أنه فتح الدولاب وانتزع منه أكواما من الكتب الثمينة الحميمة التي اشتراها بحر ماله وأنفق في الاستمتاع بقراءتها معظم سنين عمره، كوم كل ذلك في حوش الدار وهو يلهث ويتعثر في قبقابه الخشبي، وأشعل النار وهو يهذي "مالي! حد شريكي؟! أحرق مالي وعمري، والسبب هذا الوغد السافل الذي لم يقدر كفاحي من أجل تعليمه، ضياع الكتب وإن كانت عزيزة أفضل من ضياع ابن ولو كان بليدا ساقطا".. وهذا ما سرده خيري شلبي بنفسه متحدثا عن هذه الواقعة.
وأضاف: صحيح أن أبي قد أشعل النار بطريقة فنية بارعة أخمدت اللهب قبل أن يتعدى كتابين أو ثلاثة من الكتب المهترئة، وصحيح أيضا أنه استجاب لمن أبعدوه عن النار ليقوموا بإطفائها، بل الطريف أنه صرخ فيهم حينما حاولوا إطفاءها بالماء ونصحهم باستخدام التراب ليسهل تنفيض الكتب الناجية، إلا أن المشهد كان في حد ذاته مروعا، وكان كفيلا بوضع المتاريس بيني وبين الكتب الأدبية طوال سنين الدراسة على الأقل.