سر رفض محمود مرسى تغيير شىء فى مسلسله عن جبران خليل جبران
تحل اليوم ذكرى رحيل الفنان الكبير محمود مرسي، القامة الفنية، والذي يصفه الناقد مصطفى بيومي بأنه: مثقف وطني من طراز فريد، وفنان محترم ملتزم يعي معنى ورسالة أن يكون فنانا يسهم في تشكيل رؤى وأفكار أجيال تتأثر به وقد تقلده وتحتذيه، هيهات هيهات أن تجد في رحلته دورا مبتذلا أو عملا مسيئا مشينا.
يكتب قبل موته نعيا تتصدره أسماء أصدقاء العمر، فهم الأقرب إليه من الأهل وأفراد الأسرة. لا يُفرضون عليه برابطة الدم والميراث الذي لا حيلة فيه، لكنه الاختيار الحر والاستمرار عن قناعة والاندماج الذي يضفي على الحياة معنى ورونقا. أغلب الظن أن أحدا لم يفعلها من قبله، وإن تكرر الأمر له يكون بالأثر نفسه، فله فضل السبق والريادة.
قدم محمود مرسي في مسلسل “العائلة” في أوج فترة التطرف والإرهاب التي شهدتها مصر خلال التسعينيات، ولم يخش في الحق لومة لائم، حيث جسد شخصية "كامل سويلم"، ولا ينسى أحد تابع المسلسل حواره مع مصباح وهو يحاول إقناعه بهدوء ومنطق عقلاني عن الإسلام المصري الذي لم يكن يوما بجلباب أبيض قصير، فالجلباب الذي يرتديه الفلاح المصري أكثر حشمة وحفظا للعورة من ذاك الخليجي أو الأفغاني، الذي جاء به العائدون من الخليج بأفكارهم الوهابية المتطرفة الشاذة أو أفغانستان، حيث خدعة الجهاد في سبيل الله.
ــ خيري شلبي يروي كواليس عمله في الإذاعة مع محمود مرسي
يقول الكاتب الروائي خيري شلبي، عن الفنان محمود مرسي خلال تعاونهما في أحد الأعمال الإذاعية عن الشاعر “جبران خليل جبران”: "في ثمانينيات القرن الماضي شرفت بكتابة مسلسل درامي لإذاعة صوت العرب، أخرجه الإذعي الأديب محمد حامد، وحينما تباحثنا فيمن يلعب دور جبران خليل جبران قفز محمود مرسي إلى الصدارة بغير شريك، وإذا كنا على قناعة تامة بأن محمود مرسي هو الأنسب للدور بكل المقاييس كان علينا رغم ذلك أن نضع أكثر من بديل فيما لو اعتذر محمود مرسي لسبب من الأسباب، فإذا بنا وبدون أدنى رغبة في المزاح أو التهريج نكتب: نمرة واحد محمود مرسي، نمرة اتنين محمود مرسي، نمرة تلاتة محمود مرسي، وبعد زوال ضجيج الضحكة الصاخبة التي انطلقت منا رأينا أنه قد لا يكون ثمة مفر أمامنا من تأجيل تنفيذ المسلسل إذا اعتذر محمود مرسي، وأن ننتظره حتى يفرغ من مشاغله، وأن نعالج النص إذا هو رأي فيه عوجا، وأن نحايله ونذلل أمامه جميع العقبات قدر الإمكان لكي يحظى به دور جبران خليل جبران.
الجميل حقا أنه بمجرد إبلاغه ضج بالفرح وقرر أن يفرغ نفسه لهذا الدور، إنه ــ يقول ــ من عشاق جبران خليل جبران، كان يحفظ الكثير من أشعاره المهجرية، كان مفتونا برواياته وقصصه الرومانسية البديعة، كان مفتونا كذلك بلوحاته التشكيلية التي رسمها لكتاب “النبي” واللوحات التي أقام بها معارضه، بل إنه شاهدا معرضا للوحاته الأصلية وتوقف أمام كل لوحة كأنه يقرأ كتابا من كتبه.
ويضيف “شلبي”: عظيم جدا.. هكذا هتفنا جميعا، ودخلنا الاستديو كانت البطلة المشاركة له هي محسنة توفيق في دور السيدة “ماري سيكل” التي اكتشفت نبوغ جبران خليل جبران منذ الطفولة وتبنته وأنفقت على تعليمه في أمريكا وإرساله في بعثة لدراسة الفن التشكيلي في باريس. وقد نشأت بينهما علاقة درامية شديدة التعقيد، تطورت من الأمومة إلى الحب من جانبها، ومن البنوة إلى العشق من جانبه.
ــ إياك أن تغير شيئا في هذا الحوار
ويلفت “شلبي” إلى: أن المدهش حقا أن محمود مرسي بعد قراءته لنص الحلقات عقد معي حوالي عشر جلسات انفرادية طالبني فيها بإرجاع كل معلومة إلى مصدرها الذي استقيتها منه، فكانت فرصة لأن يعيد قراءة أعمال جبران خليل جبران على ضوء جديد قبل دخوله الاستديو.
ويشدد “شلبي” على: كان الحوار طبعا باللغة العربية الفصحي، وطبعا لغة جبران خليل جبران بكثافتها الشعرية والفلسفية، وكان محمود مرسي كالبلبل الغريد وهو يحولها إلى معزوفة حوارية مليئة بالحيوية والواقعية الإنسانية، تباريه بكفاءة مذهلة الفنانة محسنة توفيق. إلا أنهما كثيرا ما كانا يتوقفان فجأة لإعادة تشكيل مفردة أو الاستفسار عن مدلولها.
وكنت لفرط شعوري بالحرج من العطل أبدي استعدادي لتغيير هذه المفردة أو تلك بمفردة سهلة معاصرة، فيرفع ذراعه عبر الحاجز الزجاجي بمعني الرفض الحاسم: لا لن نغير حرفا واحدا، وبعد الانتهاء من تسجيل الحلقة يوجهان لي اللعنات.
وذات لحظة قلت له على انفراد: أنا آسف جدا على صعوبة لغة الحوار، فالتفت لي بوجه متجهم معقود الحاجبين وتوقف عن السير هاتفا: إيه يا أستاذ؟ إحنا اللي متأسفين ! العيب فينا كممثلين ! لغة الحوار في مسلسل عن حياة جبران خليل جبران لابد أن تكون على قده تعكس ثقافته وأدبه وروح عصره. أما كوننا اعتدنا الحوار السهل فتلك آفتنا ولا يجب أن يدفع النص ثمنها ! إياك .. إياك أن تغير شيئا في هذا الحوار ! أي مفردة من خارج عصر جبران خليل جبران وعالمه سوف أكتشفها ولن أؤديها ! ثم لوح لي بالتحية وانصرف.